السبت، 30 يناير 2016

عبدالواحدالأنصاري شروط الإقناع السردي

عبدالواحدالأنصاري
شروط الإقناع السردي

حاوره: عبدالله الزماي

س1/ لماذا تخليت في "ممالك تحت الأرض" عن تقنياتك السردية المبتكرة في "كيف تصنع يدا؟" و"السطر المطلق" وانحزت للحكاية هنا؟أم أنه يمكننا أن نعتبر ورود عبارة "....وكنت في حضرة شيخي" في أول الرواية, شكلا من هذه التقنيات؟
سأبدأ بالإجابة على الشطر الثاني من السؤال: وهو أن النقاط الثلاث في بداية الرواية (... وكنت في حضرة شيخي)، والنقاط الثلاث في نهايتها (لا إله إلا الله، محمد رسول الله...)، هذه إنما أتيت بها للإشارة إلى أن بداية النص المكتوب ليست هي بداية الأحداث، ولا الحكاية، وإن كانت هي بداية الرواية، وأن النهاية كذلك، فليست نهاية رواية ممالك تحت الأرض بنهاية مغلقة للأحداث التي جرت لبطلها. وهي أيضاً محاولة لإثبات أن البداية مفتوحة كما أن النهاية مفتوحة، وربما كان هذا أيضاً لطمع خفيّ في أن أعود لكتابة جزء آخر من هذا العمل، على رغم أنني الآن لا أفكر في ذلك، لقد كبرنا على الرواية يا صديقي، وربما كان الأصح أننا هرمنا منها، وربما يأتي يوم (قرّبه الله) تشغلتني فيه هود وأخواتها.
لكن قبل أن أمضي معك في هذه الأجوبة، لا أحب أن أخادع القارئ عن نفسي أو عن رواية ممالك تحت الأرض، فعلى رغم كلامي هذا المسترسل عنها، فهي ليست إلا عملاً سردياً عن شاب يتيم أراد الترقي في مراتب التصوف، وتجري أحداثه في مصر القديمة في القرن الحادي عشر الهجري، ولا تتعدى أوراقه 128 صفحة، وصدرت عن مؤسسة الانتشار العربي اللبنانية.
أما عن الشطر الأول من سؤالك، حول التقنيات السردية والتخلي عنها (وأنا لا أفهمها هنا بالمعنى الاصطلاحي، وإنما بالمعنى العرفي الذي نقصد به في المشهد المحلي أساليب السرد وفنونه وتجلياته، بما يدخل فيه مصطلح تقنيات السرد ولا يستحوذ عليه) فدعني أقول لك أيها الفاضل: لا تصدق في العصر الذي نعيشه أن ثمة قراء كثيرين أو حقيقيين يُعنون بجانب العمق أو التقنية أو التجريب في السرد، فالمحرّك الأساسي للإقبال القرائي على النصوص يرجع إلى ثلاثة أمور لا رابع لها في اعتقادي، وهي: الجوائز، والشهرة الإعلامية، والحكاية البسيطة ذات الإثارة. فعلى سبيل المثال: هناك نقّاد وسرديّون جيدون جداً حين ينظّرون للعمق والرمزية والتجريب وما أشبه. ولكنك عندما تكتب لهم نصاً بهذه المواصفات فإنهم يتململون من نصّك ويتخلون عن الأوصاف النقدية ويلجؤون إلى أوصاف تطلق على الأطعمة والأغذية، وعلى الطرق والشوارع، وعلى الأفلام.
فيطلقون على نصك أنه "عسر الهضم"، "فيه تطويل"، "استعراضي".
ولهذا أدرك الكُتاب العرب بخاصة في سورية ولبنان وفي الجزائر والمغرب، العربي هذه اللعبة باكراً، فاجتذبوا القراء بنوع الكتابة الحكائية البسيطة ذات الإثارة، وأوهموهم بالعمق بطريقتين: "التكلف الأسلوبي"، و"المونلجة الجريئة". فأصبح وصف العمل بالعمق متفرعاً إلى عنصرين: الإثارة، والتكلف الأسلوبي والمونلجة الغريبة. واستسلم لهم القارئ واعتبر الأعمال عميقة.
ولذلك عندما أستطلع تجربتي الخاصة، في رواية: "كيف تصنع يداً" مثلاً، أجد أن القارئ العادي يتململ منها، وكذلك النقاد المتحذلقون الذين يطالبون بالتجريب والتعقيد، فأحد هؤلاء النقاد الكبار قال لي:
"مقدمة الرواية العلمية فيها استعراض بحثي".
ولولا أن الناس (وبخاصة النقاد والروائيين) أصبح أكثرهم يكذبون، وقد يكذبك الشخص إذا حكيت عنه ما كان يحلف لك به، لذكرت لك اسم هذا الناقد القائل.
وأما أحد المحاورين الصحافيين كثيري الحديث عن التجريب فقد قال لي عن رواية "كيف تصنع يداً": "لقد ضاعت الحكاية في ظل عنايتك بالمعلومة"، وهذا المحاور لا يستطيع تكذيبي، لأنه أصدر قوله هذا في كتاب.
آخرون منهم روائيون كبار قالوا: ببساطة "غير لذيذة".
وممن تعرضوا لتحكيم هذه الرواية (كيف تصنع يدا)، عندما طلبت من نادٍ أدبي أن يطبعها لي، محكمون، قضوا ثلاثة أشهر في قراءة الفصل الأول، وقالوا:
هذه مجرد عبارات قاموسية! بل نصحتني إحداهن بتوسيع اطلاعي في الرواية (عجبي!)، وقائل هذا هو قاصة روائية محكّمة عرض عليها أحد الأندية الأدبية (كان رئيسه آنذاك يستعين بي لتحكيم روايات الناس، ثم فازت بجائزة كتاب العام مجموعة قصصية كنت أنا من حرّرها وصاغها ودققها وصفّها وأحسن إليها وإلى مؤلفها الذي كان يدرس الطب في أمريكا، ولم يكن يخطر بباله أن أحداً سيجمع له هذه المجموعة المنتثرة في غلاف، فضلاً عن أن يتخيل أنها ستصدر بهذه العناية والتحرير من الشوائب والمآخذ السردية)، وهذه المرأة المحكَّمة التي عرض عليها ذلك النادي قبول رواية "كيف تصنع يداً" أو رفضها، من أجهل خلق الله بالأدب، ولكن لوجاهتها (عندهم) صارت ساردة محكّمة على رغم أنف الدهر وأهله، وهي التي أوصت النادي بأن ينصحني بـ"قراءة الرواية حتى أفهم ماهية العمل الروائي"! وأنا إنما أتوقف وأستحيي وأكف عن ذكر اسمها مراعاة لأحد أمرين: أن تكون ماتت أو نال منها الزهايمر قبل أن تقرأ هذا الحوار، لأنها بلغت من الكبر عتياً في غير علم ولا أدب، مع ادعائها لهما جميعاً وللشباب معاً، وأخشى أن يحزن ذكري اسمها ورثتها أو مرافقي شيخوختها الخاوية عند اطلاعهم على هذا الحوار.
المهم أن أقول لك إن أولئك المتفيهقين الذين طالما طالبوا بالأعمال التجريبية المعقدة العميقة، عندما أصدرت روايتي تلك، وأرهقتهم قراءتها، لم يطرح أي منهم سؤال العمق أو الفلسفة أو التجريب!
ثم فوجئت ببعضهم يضغط علي للحصول على نص "سلس" "غير متكلف" يستطيع "إكمال قراءته".
تحت هذا الضغط اضطُررت إلى التخلي عن أسلوب التجريب موقتاً في رواية "ممالك تحت الأرض"، واستخدمت أسلوب التكثيف وإدراج المعلومات والمونولوج والإثارة وتأجيج الصراع في رواية ذات طابع أفقي، وتخليت عن تقنيات الراوي العليم، وعن إدراج البناء الحكائي داخل بناء روائي أكبر، وتخليت عن طريقة الكتابة الرأسية التي تعتمد على ذهن القارئ في الربط بين الأحداث وترتيبها، وصغت الحدث من "أ" إلى "ب". وبهذا حظيت الرواية بإقبال كبير وقُراء ومعجبين كثر، على رغم أنني بذلت فيها مجهوداً تقنياً أقل، وبالطبع، لا يعني ذلك أنني لم أعتن بها من حيث دقة المعلومة وإتقان الحبك ولعبة الإقناع. والمحصّلة: أن ما يطالب به القراء هنا في مثل هذا الموضوع، قد يعوق إكمالهم قراءة النص لو امتثلتَ له، لأي سبب أو مبرر، ولو بأن يطلق عليه القارئ وصفاً لوجبة غذائية سريعة جافة وباردة.
فهذه التجربة علّمتني أنك عندما تكتب فليس عليك أن تراهن على وعي القارئ، وإنما عليك أن تستبق رد فعله. والفرق بينهما كبير؛ فأن يقرأ أحد عملك كاملاً ثم يفاجئك بقوله: "كان سهلاً وغير عميق"، خير من أن يقول لك: "آسف، لم أستطع القراءة"، فيفاجئك ويحزنك، ويشعرك بأنك مخدوع إذ راهنت على ما كان يتظاهر به أمامك من وعي وعمق، وعلى ما كان يدعوك إليه من هذا الوعي ومن هذا العمق.
باختصار: أنا أفضّل أن تكمل النص وتقرأه وتمارس عليه الأستاذية أو الأبوية، على أن تعجز عن قراءته، فتتخذ معه أسلوباً موسوماً بالتجاهل والاستبعاد.
س2/ تنقسم الرواية إلى قسمين رئيسيين: قسم فكري مليء بالحوارات الفكرية العميقة والقسم الثاني حيث بدأت الحكاية والشخصيات بالوضوح ..هل هذا عمل متعمد أم عفوي؟ هل هذا عيب فني في الرواية؟
ربما كان عيباً فنياً في بضع صفحات، ولم أفطن إليه، لا أبرئ نفسي، ولكن العمل نفسه يتبع طريقة أفقية، والبطل يحكي فيه ما يجري له، فعندما يمر بمراحل الدرس الصوفي ومصطلحاته، وهي مراحل محددة من جو الرواية، فلا بد أن يعاني القارئ شيئا من صعوبة في هذا الجانب، لا لأن السرد صعب، ولكن لطبيعة صعوبة الدرس الصوفي، ولأن البطل نفسه يعانيها، وبحسب ما أتذكر فإن الشطر الأول من الرواية لم يكن صعباً، وهي الآن بين يدي، بل كانت الصعوبة في مقاطع الصفحة 45 وما يليها، فيما لا يزيد عن سبع صفحات، عند التعرض لمفاهيم التصوف الفلسفية، وللدرس الصوفي، الذي استثقله البطل نفسه، وكان يحكيه وكأنه يحكي فصلاً من فصول التهويم العقلي، وعموماً، أنا لا أخفي كما يخفي غيري مصادره، فقد نبهت في آخر رواية ممالك تحت الأرض إلى مصادر استلهامي لهذا الدرس المعقد في بعض مقاطعها. ثم إن الرواية بعد هذه المقاطع المتعثرة مضت في سهولتها وسلاستها، ولم يستصعب منها كثيرون ما استصعبته أنت وأنا وبطلها منها أيها الفاضل.
س3/ هل شخصيات الرواية "قاسم" و"أحمد" و"الخولي" وغيرهم شخصيات تاريخية حقيقية؟ أم أنها شخصيات متخيلة في إطار تاريخي؟ وأيهما أفضل لكتابة الرواية التاريخية اختيار شخصيات حقيقية أم متخيلة ؟
كلا، ليست حقيقية، بل هي متخيلة في إطار تاريخي. أما شطر سؤالك الأخير، عن الأفضل من الكتابة عن شخصية حقيقية أم متخيلة، فهذا يحتاج فيما يخص الشخصيات في الروايات التاريخية إلى شيء من البسط، أحتسب فيه أن يفيد القارئ منه، فالذي أفضّله هو أن يكتب الروائي الشخصية التي يحتاجها جو العمل، سواء أكانت حقيقية أم متخيلة، بشرط أن يكون قادراً على إقناع القارئ بها، أما الكتابة عن الشخصيات التاريخية الحقيقية فإنما هي كتابة عن الذوات، لا عن شخصيات مطلقة فحسب، فعندما تكتب عن رمز ديني أو تاريخي مثل الغزالي أو صلاح الدين فإن مساحة الحرية أقل مما لو كنت تكتب عن تاجر مصاغات معاصر لهما من تخيلك، فعندئذ تكون مساحات الحرية أكبر، ولا يلزمك سوى أن تحتاط للجغرافية والبيئة والوقائع والعادات واللغات، وغير ذلك مما تتطلبه شروط الإقناع السردي.
أنا أعلم أن ثمة من يعتقدون أن لهم الحرية في تصوير التاريخ والأشخاص كما يشاؤون، وفي تبديل حيواتهم أو تخريبها على الأصح، وأدرك أن ثمة من يعدون من المهارة الفنية أن يشككوا في حقيقة هذه الشخصيات التاريخية أو يعبثوا بها، ولا تستغرب من أحد هؤلاء إذا كتب لك رواية يقول لك فيها إن سبب زهد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله هو أنه ارتكب جريمة قتل في أول شبابه الأموي، ثم ندم على ذلك، ولا إذا صوّر لك جلال الدين الرومي على أنه شخص طاهر نبيل (وقد ظن بعض الجهلة ذلك ظن البلهاء)، بل لا تعجب مما هو أبعد من هذا وأنكى، فما دام الروائي أو الأديب أو المثقف، غير متحلّ بالعقل المستقل والتذوّق الأبيّ فإنه يُتوقع منه أي شيء، بخاصة إذا كان يظن أن له سلفاً غربياً يتبعه في ذلك، فعندئذ هو مفتون بهذا السلف الغربي فتنة الابن غير المميز بتهاويل أمه وفلتات لسانها، ولا يستطيع أن يميز بين هذه التهاويل وبين صفاتها الأمومية النبيلة، فعلى رغم اعترافي بأن الرواية فن غربي خالص، ويكتسب عالميته من ترسمه الأصول الغربية في بناء الرواية، وهذا أمر أعترف به على مضض، فلا أحد أشد مني تمنياً لأن تكون الرواية فناً عربياً، غير أن الأمانيّ شيء والحق شيء آخر، أقول: على رغم ذلك فإن للرواية شروطاً فنية وذوقية وأدبية لا يمكن أن نقرّ بتجاوزها، حتى لو كان مرتكب هذا التجاوز من أساطين الرواية، فإن الأديب قد يكون مبدعاً على رغم الأخطاء التي ارتكبها، وليس بسبب تلك الأخطاء، وشتان ما بين الأمرين، فهل نستطيع أن نقول إن هيمنغواي كان مبدعاً لأنه كان سكيراً عربيداً جاسوساً، أو نقول إنه كان مبدعاً على رغم ذلك؟
ويحضرني الآن للتدليل على هذه الفكرة، وأعتذر عن الإطالة، مثال ساقه الرافعي في أحد ردوده على طه حسين، وهو أن قساً نصرانياً كتب في جريدة السياسة المصرية، يذكر تاريخ القديس بفنوس، الذي تناوله الروائي العالمي الفرنسي أناتول فرانس، الحائز على جائزة نوبل عام 1921، وأوضح أن القديس بفنوس الذي تناول فرانس في رواية تاييس تم العبث به، وسخر الروائي من تقواه وصلاحه، ورماه بامرأة بغي، تركته في الإثم وسقوط النفس، وصور أنه لا فرق بين القديس وهذه البغايا اللواتي كن في عصره، ولم يكتف بذلك، بل رفع مكانة البغي والبغايا في هذه الرواية وجعلهن قديسات تتفتح لهن أبواب السموات وتتلقاهن الملائكة. ثم ذكر هذا القس أن أناتول فرانس إنما تعمد بذلك إفساد التاريخ. ولم يكتف أناتول فرانس بإفساد صورة الشخصيات التاريخية، بل عمد إلى التشكيك في وجود بعض الشخصيات المتواترة، فشكك في أصل وجود جان دارك، وذكر أنها شخصية لم يخلقها الله، وهي أشهر من نار على علم.
ونحن قد لا نعجب من هذا إذا علمنا أن أناتول فرانس، على رغم بلاغته الفريدة، ومحافظته على جزالة الفرنسية في عصره، واستحقاقه لنوبل، على رغم ذلك فهو في حقيقته الذاتية كاتب عابث، يتبنى فكرة أن المعرفة لا قيمة لها، وأن التخيل يغني عنها، ويهزأ بالمستقبل، ويقول إن انتظاره لا شيء، والخوف منه غير مستحق، وغير ذلك من التهويمات العبثية غير المبالية، التي يمكن أن تصلح لأديب مرفه، ولكن لا يستطيع أناتول فرانس نفسه أو غيره أن يتبناها لو أمسى وهو مفلس أو هو مصاب بالسرطان، فضلاً عن أن تتبناها دولة في حرب عالمية أو تعاني أزمة مالية أو تعاني انتشار وباء إيبولا فيها، على سبيل المثال.
وإنما تكمن خطورة هذه الفكرة في لوازمها ومآلاتها التي منتهاها الوصول إلى تشويه التاريخ والذوات بما في ذلك تشويه الرموز المقدسة كالأنبياء والمرسلين والذات الإلهية بالإفك والبهتان، ولو أننا تبنينا هذا العبث نحن المسلمين فإلى أين سيقف بنا، وكيف يحق لنا عندئذ أن نلوم أو ننتقد كاريكاتيراً مسيئاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو حتى رواية مثل آيات شيطانية لسلمان رشدي؟
س4/ يتضح من خلال الرواية عناءك في البحث والاعتماد على مراجع وخرائط ونحو ذلك هل الروائي ملزم بكل ذلك حين يكتب رواية تاريخية ؟
هذا العناء سببه أنني أحاول الالتزام بشروط الإقناع السردي، وبأن من مسؤوليتي أن أحاول إقناع المؤرخ نفسه برواية ممالك تحت الأرض في صفحاتها الـ127، مثلما أحاول إقناع القارئ العادي بها، ونعم، إن ذلك لازم كما نص عليه أكثر من روائي عالمي محترف، إذا قصدت الرواية حكاية واقع بعينه حكاية أمينة، ولهذا فإنني أدين بفضل معلومات رواية ممالك تحت الأرض لعدد من الكتب والمقالات والقصائد، كتائية ابن الفارض، ووصايا وفصوص حكم ابن عربي، ولطائف منن وآداب عبودية وآداب صحبة وأنوار قدسية وطبقات الشعراني، وإلى كرامات النبهاني والهيتمي وفتوح غيب الجيلاني وكوكب أعلام سعد الدين إلياس، وحلاج ماسينيون وقاموس مصطلحات أيمن حمدي، وتحقيق موسى الدويش لبغية المرتاد ومصرع البقاعي والحقيقة المحمدية للدوسري، وأما الحوادث المزامنة لحياة البطل قاسم فأدين بها لكتاب الروضة المأنوسة للبكري. كما أدين في وصف مصر القديمة بعمائرها وأسواقها وخرائبها ومقابرها وجوامعها وزواياها لخريطتين فريدتين لخالد حامد أبو الروس في رسالته الماجستير: مصر القديمة في القرن السابع عشر الميلادي، وغير ذلك من المراجع. ولعل القارئ يجد لهذا المعنى تفصيلاً أكبر في كتابي المنشور على الشبكة بعنوان (حفلات الرداءة الأدبية)، وهو كما تعلم كتاب في موضوع فوز الأعمال الرديئة بالجوائز الأدبية الكبرى.
س5/ استخدمت في الرواية حوارات ذات عبارات قصيرة ولكنها تحمل مضامين عميقة..لماذا؟ ألا يخرج هذا الرواية من طبيعتها لتصير بحثا فلسفيا أو علميا خصوصا لمن لا يمتلك هذه الخلفية المعرفية عن الموضوع ؟
الشخصيات الصوفية التي قرأت عنها قليلة التكلم، عميقة المعاني، تتفاهم بالرموز، وقد استقرأت كتب الصوفية وتراجمهم وحواراتهم فوجدت في حواراتهم هذه الخاصية، فاهتممت بإبرازها في ممالك تحت الأرض، وحرصت على أن يكون الحوار مفهوماً لجميع القراء، وإن خفيت عبارة أو كلمة على قلة منهم، فلا شك أن السياق سيمكنه من التقاطها، فالرواية في النهاية جهد قراءة كما أنها جهد كتابة.
س6/ لا يتعرف القارئ على زمن الرواية بشكل مباشر من خلال الرواية ولا حتى على اسم بطل الرواية "قاسم" إلا بعد مائة صفحة من الرواية ..لماذا؟
 يمكن للقارئ أن يتعرف على زمن الرواية وبطلها قبل منتصف الرواية، بل في الصفحات العشرين الأولى منها، ولكن التصريح باسمه وبزمنها جاء متأخراً، لأن الرواية على لسان البطل، ولسان البطل عفوي، يحكي باسترسال، ولا يقدم عن نفسه سيرة ذاتية قبيل الدخول في العمل، ولا هو كاتب معاصر يعتمد شيئاً من هذا القبيل في بدايته، فهذا يكسر عفوية السرد، وعلى كل حال، فإن هذه العفوية أسلوب متبع في المذكرات، فمثلاً، لو أنك فتحت كتاب أسامة بن منقذ المعروف (الاعتبار) لوجدت أن التصريح بزمن واسم مؤلفه يظهر بعد وقت غير يسير من ابتدائك في القراءة، أظن أن الأمر عادي، بل هو الواقعي.
س7/ جعلت اليهودي مثلا في الرواية يتفوق على الصوفي في الحوار ..هل كنت محايدا أم مؤدلجا ؟ وهل ينبغي للروائي أن يكون محايدا أو مؤدلجا أو سواهما مثلا ؟
لا شك أن اليهود أهل علم وحوار وكتاب، ولهم تاريخ طويل في المعرفة، ثم إنهم لا شك أقوى وأشد تماسكاً وأقل تناقضاً في أبواب العقائد والأسماء والصفات من غلاة الصوفية، على رغم ما عند أحبارهم من التكذيب والتحريف والتجسيم، وهذا الأمر نص عليه أكثر من واحد من علماء الاعتقاد، فالصوفي الغالي (وهو ما أقصده عندما أتحدث هنا أو في الرواية) يؤمن بأن الله مبثوث في الكون، وفي البشر، وبأنه قد يحل في الأشخاص حلولاً خاصاً، ولا يؤمن بأنه في السماء، واليهودي في رواية ممالك تحت الأرض، بما أنه مطلع على كتبه وعلى كتب المسلمين، ويعرف هذه العقيدة جيداً عند ألدائه النصارى، وكما في أحداث تاريخية مشابهة، فهو يذكر الصوفي في الرواية بالحوار الذي دار بين فرعون وموسى وأورده الله في القرآن، من أن فرعون كان ينكر أن الله في السماء، ويأمر وزيره هامان بأن يبني له صرحاً لعله يطلع إلى إله موسى، ثم يقول هذا اليهودي للصوفي: أنت بدعوتك إياي إلى عقيدتك تدعوني إلى عقيدة فرعون، وأنا لا أتبع فرعون وأترك موسى، لأن  الله قد أغرق فرعون لموسى. وكما ترى، فهذا الحوار جزء لا يتجزأ من الصراع العقدي المسجل تاريخياً، والمنتشر في تلك الأزمنة بين أهل الكلام وأهل الحديث وأهل الفلسفة، وقد نقل ابن تيمية نحواً منه، وأنا قد أشرت إلى مصادر رواية ممالك تحت الأرض في نهايتها كما تعلم. وأحب هنا أن أضيف: أنه لا يلزمك لكي تحكي عن اليهود موقفاً إيجابياً أن تتملقهم ولا أن تحاول أن تبرئ نفسك من تهمة "اللاسامية"، فالعرب ساميون لأنهم من أبناء إسماعيل بن إبراهيم وهم مبرؤون من "اللاسامية" مثلما هم بريئون من "اللاإبراهيمية"، بطبيعة الخلق والفطرة، قبل أن يكون ذلك بطبيعة الديانة، وتشهد بذلك أقدم الوثائق الأدبية في تاريخ الأدب العربي، من دواوين شعر العرب ومؤلفاتهم، كما في طبقات فحول الشعراء لابن سلاّم الجمحي. وأما تملق اليهود في الروايات العربية ومحاولة إظهارهم على ضحايا للعرب، وهم في الحقيقة ضحايا للألمان وللأرثوذوكسية والكاثوليكية، ثانياً، والعرب والمسلون ضحايا لهم ثالثاً في هذا العصر، فهذه البصبصة إنما هي من تملق بعض روائيينا العرب في اليمن والعراق والشام والمغرب للصهيونية العالمية واستجدائهم لجوائزها أو الجوائز التي تقلدها، حتى إن روائياً عالمياً من غير العرب، مثل أمبرتو إيكو الإيطالي، الذي هو في غنى عن هذا، لو كان للغنى أن يكون في غير القناعة، وقع في هذا التملق في إحدى رواياته، إلا أن اليهود لم يقبلوه منه (بحسب ما فهمته مما بلغني من ردود أفعالهم)، ورده عليه بعضهم في وجهه، وربما تسعى لوبياتهم بعده إلى محاولة حرمانه من جائزة نوبل، التي لم يبق له شيء يحلم به سواها، أقول "ربما"، لأنه كتب تملقه لهم في رواية "مقبرة براغ" بطريقة فنية تحتمل أكثر من وجه، وجهاً للانتصار لهم، ووجهاً لذمهم، وعلى رغم أنه حاول نفي تلك الاحتمالية السيئة بأعلى ما في حنجرته من طاقة، فإنهم لم يرضوا بذلك (أكرر بحسب ما فهمت)، لأنهم إنما يعتمدون على النص الأصلي، وليس على تأويلات كاتبه وصراخه، وقد غفل هذا الإيطالي العظيم عن أن اليهود يقبلون بتعدد الدلالات وبالنصوص المفتوحة على التأويل في كل شيء، إلا فيما يتعلق بهم، فهاهنا إما النص الواحد المغلق والمنتهي بالركوع لهم، وإما الطرد من رحمتهم.
س8 / هناك عوالم غريبة جدا في الرواية مثل مضاجعة القرود والسير تحت الأرض ونحو ذلك..هل مثل هذه السلوكيات موجودة في تلك الحقبة التي تتحدث عنها الرواية؟
نعم، هذا موجود في كتب الصوفية وحكاياتهم وكراماتهم، وإسقاطاتهم للتكليف عن أنفسهم، تبعاً لمفاهيمهم في الترقي من مراتب العامة إلى الخاصة وخاصة الخاصة، وهلم جراً، ووفقاً لوقوعهم في غرائب الأفعال والصنائع، ومن يعرف الطرق الصوفية وكراماتها وغرائبها قد يجد أن رواية ممالك تحت الأرض مقصرة جداً في هذا الجانب، ولم تتناوله إلا بقدر ما يتحمله القارئ العادي.
س9 / تتحدث الرواية عن الصوفية ولكنها أهملت بعض الممارسات الصوفية الشائعة مثل الأناشيد والأشعار وغيرها .. لماذا؟
ثمة فرق بين الصوفية الغالية وبين صوفية الدراويش التي تحتشد فيها مظاهر الموالد والأغاني ونحوها، وقد ركزت في رواية ممالك تحت الأرض على الجانب الباطني للتصوف الغالي، وجانب الكرامات والترقي في درجات هذا التصوف، وغيبت جانب السماع والموالد وغيرها، نظراً إلى غيابها التام في مراجع هذه المواضيع، فلا تجدها حاضرة في الترقي الصوفي، ولا في كتب الاعتقاد الصوفية غالباً، ولا في كتب كراماتهم، ولكنني أوافقك تماماً، التغييب التام لهذا الجانب يعد تقصيراً شديدا مني وغفلة، إذ كان ينبغي على الأقل أن أتعرض لشيء من هذه الموالد ومن جلسات السماع، وهذه سقطة على كل حال، ولكن لعل ما قدمته في إجابة السؤال يشفع لي.
س10/ تتقاطع الرواية في عوالمها مع عوالم "الواقعية السحرية" عند روائيي أمريكا اللاتينية هل هذا تأثر من الروائي بروائيي أمريكا اللاتينية .. أم أن الواقع الصوفي يتشابه فعلا مع الواقع هناك؟ هل خطر لك هذا من قبل ؟
أنا متأثر باللاتينيين روائيين من رأسي إلى أخمص قدميّ، ومتأثر بالبرتغاليين ساردين أيضاً، غير أنني في رواية ممالك تحت الأرض لم أصدر عن عالم الواقعية السحرية، فالرواية في جانب منها أقرب إلى العجائبية من الغرائبية، وليس في تاريخ الدنيا أعجب من واقع الصوفيين، بل إنني لا أتوقع أن تجد واقعاً أعجب منه طوال حياتك القرائية، تخيل أن صوفياً يعتقد أن من كراماته أنه يتحمل آلام الولادة عن النساء، فإذا سمع صراخ من تلد قفز في خرابة مجاورة لمنزلها، ثم أخذ يتلوى ويتحمل آلام الولادة عنها، لتلد هي بعد ذلك في يسر وليونة. هل يستطيع روائي لاتيني أن يأتي (مهما اتسع خياله أو طرفته) بشيء مشابه لهذا الذي يمارسه الصوفي في العالم الواقعي ممارسة عادية يقره عليها شيوخه ويرويها عنه تلاميذه من دون أي استنكار أو استغراب؟
س11/ كانت نهاية الرواية مفتوحة على كل الاحتمالات ولم تنص على أن البطل قتل "الخولي" أو لم يقتله ..لماذا؟

 لا أدري، ربما لأنني رأيت أن إيراد لفظ القتل بعد تلفظ البطل الثانوي بالشهادة فيه قتل للعمل وإجهاض له، وفضلت ترك نهاية الرواية من دون أن نتأكد هل وقعت جريمة قتل الخولي أم استطاع البطل قاسم أن يتجنبها وينتصر على نفسه ومشايخه، لكي نفتح للقارئ وللمتخيل وللإنسان وللشاب في واقعنا المعاصر المليء ببرك الدماء أن يسائل الرواية ويسائل نفسه، ماذا حدث؟ أو ماذا يمكن أن يحدث؟ هل تستطيع الفطرة أن تستنقذ عضو الجماعة أو المنظمة من الوصول إلى جريمة قتل نفس معصومة؟ حتى ولو كان صاحبها مخدوعاً آخر يدعوك ويحثك ويغريك بقتل نفسه؟! وعموماً، أتذكر أن نهاية رواية الحرب والسلم لتولستوي نفسها كانت تحكي موقفاً مشابهاً من حيث النهاية، فقد ظل المتبارزان يؤخران إطلاق النار حتى انتهت الرواية، ومن هذا المشهد التولستي استلهمت نهاية إحدى قصصي الطويلة (ساطور لأحلام خميس)، ولكنها قصة أخرى، وليست روايتنا هذه، ليست رواية ممالك تحت الأرض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق