السبت، 10 سبتمبر 2016

اللحظة التي أدركت فيها أنني سأكون روائيا.. هاروكي موراكامي

اللحظة التي أدركت فيها أنني سأكون روائيا
هاروكي موراكامي
ترجمة: عبدالله الزماي
         
يتخرج معظم الناس-وأقصد بمعظم الناس هنا نحن الذين نشكل جزءاً من المجتمع الياباني-من المدرسة ثم يحصلون على عمل, ثم بعد مرور بعض الوقت يتزوجون،حتى أنا في الأصل كنت أنوي إتباع  هذا النمط،أو على الأقل هذا ما تصورت أن تؤول الأمور إليه،لكنني في الواقع تزوجت أولا ثم بدأت العمل,ثم –بطريقة ما-تمكنت أخيرا من التخرج،وبعبارة أخرى, فإن النظام الذي اتبعته كان على العكس تماما من النمط الطبيعي المتبع .
ولأنني كنت أكره  فكرة العمل في شركة, قررت أن أنشئ مؤسسة خاصة بي,وهي عبارة عن مكان يمكن أن يقصده الناس للاستماع لتسجيلات موسيقى الجاز واحتساء القهوة وتناول الوجبات الخفيفة والمشروبات،لقد كانت فكرة بسيطة أكثر من كونها من نوعية المشروعات التي تعتمد على الحظ،وقد ظننت أن إدارة عمل تجاري مثل  هذا سيمنحني الفرصة للاسترخاء والاستماع إلى الموسيقى المفضلة عندي من الصباح حتى المساء،كانت المشكلة تكمن في أنه - منذ أن تزوجنا أنا و زوجتي ونحن كنا  لا نزال في الجامعة - لم يكن لدينا المال، و لذلك عملت أنا وزوجتي كالعبيد على مدى السنوات الثلاث الأولى وغالبا شغلنا عدة وظائف في وقت واحد لندخر أكبر قدر ممكن من المال، و بعد ذلك قمت بجولات للاقتراض من كل من تمكنت الوصول إليه من الأصدقاء والعائلة ، ثم أخذنا كل المال الذي تمكننا من جمعه وافتتحنا مقهى صغيرا أو بارا في "كوكوبونجي",مكان ليتسكع فيه الطلبة ويمضون أوقاتهم, في الضواحي الغربية لطوكيو وكان ذلك عام 1974.
وقد كان افتتاح متجر خاص بك في ذلك الوقت أقل تكلفة بكثير مما هو الآن،فقد دشن الكثير من الشباب مثلنا–من الذين عقدوا العزم على تجنب حياة الشركات بأي ثمن- المتاجر الصغيرة  يمينا ويسارا، فالمقاهي والمطاعم والمكتبات والمتاجر المتنوعة –عدد ولا حرج،  وكان هناك العديد من الأماكن المنتشرة بالقرب منا يملكها ويديرها أشخاص من جيلنا،احتفظت "كوكوبونجي" بمشاعر ثقافية مضادة قوية,وكثير من أولئك الذين يتسكعون في جميع أنحاء المنطقة كانوا من المتسربين من الحركة الطلابية المتقلصة،كان ذلك في زمن حيث لا يزال المرء حينها في جميع أنحاء العالم  يجد ثغرات في النظام.
أحضرت البيانو القديم من منزل والدي وبدأت بتقديم عروض عزف الموسيقى الحية في عطلات نهاية الأسبوع،كان ثمة العديد من عازفي الجاز الشباب الذين يعيشون في منطقة "كوكوبونجي" والذين كان يسرهم العزف (على ما أظن) في مقابل المبلغ البسيط  الذي ندفعه لهم،وقد أصبح الكثير منهم موسيقيين مشهورين بعد ذلك،وأحيانا أصادفهم في نوادي الجاز في طوكيو من حين لأخر.
على الرغم من أننا كنا نقوم بعمل نحبه,فإن سداد ديوننا كان نضالا مستمرا,فقد كنا مدينين للبنك وللأشخاص الذين  قدموا لنا الدعم والمساندة،وفي إحدى المرات كنا عاجزين عن دفع القسط الشهري المستحق علينا للبنك,وكنت أسير مع زوجتي جنبا إلى جنب مطأطئين رؤوسنا في وقت متأخر من الليل وحينها عثرنا على نقود ملقاة في الشارع،سواء كان ذلك تزامنا أو نوع من التدخل الإلهي,لا أعرف،لكن المبلغ كان بالضبط ما نحتاج إليه،وبما أن استحقاق الدفع كان في اليوم التالي,فقد كان حقا في اللحظة الأخيرة كما لو كان  بمثابة إيقاف تنفيذ لحكم بالإعدام،(ولقد حدثت أحداث غريبة مثل هذا الحدث في مراحل مختلفة من حياتي)، ربما كان معظم اليابانيون في مثل هذا الموقف ليقومون بالشيء الصحيح,ويعمدوا إلى تسليم المال إلى الشرطة, لكن بالنظر إلى الظرف الذي كنا فيه لم نتمكن من التحلي بمثل هذه المشاعر النبيلة.
ومع ذلك كان لا يزال الأمر ممتعا بلا شك،فقد كنت فتيا وفي قمة عطائي و يمكنني الاستماع إلى موسيقاي المفضلة طوال اليوم,وكنت سيد عالمي الخاص الصغير،لم أكن مضطرا للشعور بالاعتصار في القطارات المزدحمة بالركاب أو حضور الاجتماعات المرهقة للذهن أو تملق رئيسي في العمل الذي لا أحبه،فبدلا من ذلك أتيحت لي الفرصة لمقابلة كافة أنواع الناس الممتعين.
هكذا قضيت فترة العشرينات من عمري في سداد القروض, والقيام بالعمل البدني الشاق (صنع السندوتشات والمشروبات ودفع الزبائن سليطي اللسان خارج المكان) من الصباح حتى المساء،بعد بضع سنوات قرر مالك المبنى في "كوكوبونجي" أن يقوم ببعض التجديدات,لذلك انتقلنا إلى أكثر الأماكن رحبا وحداثة بالقرب من وسط طوكيو في "سانداغايا"،وقد هيأ لنا موقعنا الجديد مساحة كافية لوضع بيانو كبير,لكن نتيجة لذلك تزايدت ديوننا و لهذا لم تكن الأمور سهلة بأي حال.
وعندما أعود بذاكرتي إلى الخلف فإن جل ما أتذكره هو مدى صعوبة عملنا آنذاك،  أتصور أن معظم الناس كانوا ينعمون بالاسترخاء نسبيا خلال فترة العشرينات من أعمارهم,بيد أنه لم يكن لدينا تقريبا متسع من الوقت للاستمتاع "بأيام الشباب الخالية من الهم".وبالكاد كنا نحصل على وقت الفراغ الذي كنت أقضيه في القراءة,فبالإضافة إلى الموسيقى،كانت الكتب  هي شغفي الأكبر,مهما كنت مشغولا أو مفلسا أو مرهقا,لم يكن لأحد أن يحرمني من تلك المتع.
مع اقتراب نهاية العشرينات من عمري, كان مقهى الجاز الخاص بنا في "سانداغايا" قد بدأ أخيرا يبدي علامات الاستقرار،صحيح أننا لم نتمكن من الراحة والاسترخاء وكان لا يزال لدينا بعض الديون وكانت مبيعاتنا تترنح بين صعود وهبوط،لكن على الأقل كانت الأمور قد بدأت تسير في الاتجاه الصحيح.
ذات ظهيرة يوم مشمس من شهر إبريل عام 1978م,حضرت مباراة "بيسبول" في إستاد "جينجو",والذي لم يكن بعيدا عن مقر إقامتي وعملي،كانت المباراة الافتتاحية لموسم الدوري المحلي,بدأت المباراة في الساعة الواحدة بين فريقي "ياكولت سوالوز" و "هيروشيما كارب"،وقد كنت بالفعل في تلك الأيام من مشجعي فريق "سوالوز"، لذا فقد كنت أحيانا أقوم بزيارة خاطفة لمتابعة المباريات،باعتبارها بديلا للذهاب في تمشية.
في ذلك الوقت كان "سوالوز" فريقا ضعيفا بشكل دائم (قد يتبادر ذلك إلى ذهنك بمجرد سماع اسمه)في ظل وجود لاعبين ذوي قيمة مالية  قليلة يفتقرون إلى الشهرة و الأسماء الرنانة، وبطبيعة الحال لم تكن للفريق شعبية كبيرة، وربما كانت  هذه هي المباراة الافتتاحية في الموسم لكن كان هناك عدد قليل من المشجعين يجلسون خلف سور ملعب البيسبول،أنا جلست متمددا أحتسي البيرة لمتابعة المباراة،وفي ذلك الوقت لم يكن ثمة مقاعد مدرجات في الإستاد،بل كان مجرد منحدرعشبي،كانت زرقة السماء زاهية,كانت البيرة باردة بالقدر المطلوب,وكانت الكرة شديدة البياض بالتناقض مع أرض المستطيل الأخضر,هذا اللون الأخضر الذي أراه للمرة الأولى منذ فترة طويلة،كان ضارب الكرة الأول لفريق "سوالوز"هو"ديف هيلتون" الوافد الجديد النحيل غير المعروف تماما القادم من الولايات المتحدة،والذي قام بضرب الكرة من موقع متقدم,كان الضارب رقم أربعة هو" تشارلي مانويل"،الذي اشتهر بعد ذلك كمدير لـفريق "كليفلاند إنديانز" وفريق " فيلادلفيا فيليز"، ولما كان لاعبا قوي البنية ذو ضربات قوية,أطلق عليه المشجعون اليابانيون لقب "الشيطان الأحمر".
أعتقد أن ضارب البداية لـفريق "هيروشيما" في ذلك اليوم كان "ياشيرو سوتوكوبا"،في حين جاء رد فريق "ياكولت سوالوز"على يد اللاعب  "تاكيشي ياسودا"،في الجزء الأخير من الشوط الأول, تمكن "هيلتون" من ضرب الرمية الأولى للاعب "سوتوكوبا" إلى يسار الملعب للحصول على نقطتين نظيفتين،وقد دوى صوت اصطدام الكرة بالمضرب في كافة أرجاء إستاد "جينجو"،وهنا ارتفع التصفيق المتقطع من حولي،في تلك اللحظة وبدون سبب ولا على أي أساس كان خطرت لي الفكرة فجأة:أعتقد أنني أستطيع تأليف رواية.
لازلت أتذكر هذا الشعور تحديدا،شعرت كما لو أن شيئا قد نزل يرفرف من السماء وقبضت عليه بيدي بشدة،لم يكن لدي أدنى فكرة عن سبب مصادفته السقوط في متناول يدي،لم أعرف السبب حينها,ولازلت لا أعرفه حتى الآن,أيا كان السبب،ذلك هو ما حدث،لقد كان مثل الوحي أو ربما " لحظة تجلي" هي الكلمة الأقرب،كل ما يمكنني قوله هو أن حياتي  تغيرت جذريا وبشكل دائم في تلك اللحظة,حينما سدد "ديف هيلتون" تلك الضربة الجميلة الدائرية المزدوجة في استاد "جينجو".
بعد المباراة (التي فاز فيها فريق ياكولت على ما أتذكر),استقليت القطار المتجه إلى "شينجوكو"،واشتريت رزمة من ورق الكتابة وقلم حبر,لم تكن برامج معالجة الكلمات وأجهزة الحاسب الآلي متوفرة حينها,الأمر الذي كان يعني أنه كان يتعين علينا كتابة كل شيء باليد, حرف واحد في كل مرة،كان الإحساس بالكتابة شعور جديد كليا بالنسبة لي،أتذكر كيف كنت أكتب بسعادة غامرة،لقد مر وقت طويل منذ أن خططت بقلم الحبر على الورق.
كل ليلة بعد ذلك,حينما كنت أعود متأخرا من العمل,كنت أجلس على طاولة المطبخ و استغرق في الكتابة،كانت تلك الساعات القليلة التي تسبق الفجر عمليا هي وقت فراغي الوحيد، وعلى مدى الستة أشهر التالية أو نحو ذلك كنت قد كتبت " أسمع الريح تغني"،وكنت قد أنهيت المسودة الأولى مع نهاية موسم البيسبول,وبالمناسبة في تلك السنة خالف فريق "ياكولت سوالوز" احتمالات وتوقعات الجميع تقريبا بالفوز بلقب الدوري المحلي,ثم توجه إلى هزيمة  أصحاب لقب دوري أبطال المحيط الهادي - فريق "هانكيو بريفز" - في الدوري الياباني،لقد كان هذا الموسم بحق معجزة خفقت لها قلوب مشجعي  فريق "ياكولت سوالوز".
كانت رواية "أسمع الريح تغني" عملا قصيرا,أقرب إلى "النوفيلا"منه إلى الرواية، رغم أنها استغرقت مني عدة أشهر وبذلت الكثير من الجهد للانتهاء منها،ويعود ذلك في جزء منه بالطبع إلى محدودية الوقت الذي كنت أقضيه في الكتابة,ولكن  الجزء الأكبر من المشكلة الأكبر كان يكمن في انه لم يكن لدي أدنى فكرة عن كيفية كتابة الرواية،وإحقاقا للحق فبالرغم من أنني كنت اقرأ جميع أنواع الكتب,كان النوع المفضل لدي هو روايات القرن التاسع عشر الروسية والأمريكية و القصص البوليسية المحبوكة,ولم أكن قد اطلعت جيدا على الأدب الياباني المعاصر،لذلك لم يكن لدي أدنى فكرة عن نوعية الروايات اليابانية التي تقرأ في ذلك الوقت,أو كيفية كتابة الرواية باللغة اليابانية.
وقد اعتمدت لعدة أشهر على التخمين الخالص,متبنيا ما بدا لي أسلوبا وقمت بمسايرته، حينما قرأت النتيجة التي تمخض عنها,بيد أني كنت ابعد ما يكون عن الإعجاب بها،بدا لي أنها كانت تلبي المتطلبات الرسمية للرواية,ولكنها كانت مملة بعض الشيء,حيث تركني الكتاب ككل مفعما بحس من البرود،وهنا فكرت أنه إذا كانت هذه هي الطريقة التي يشعر بها المؤلف,فإن ردة فعل القارئ سوف تكون على الأرجح أكثر سلبا،وهنا اعتراني شعور بالاكتئاب وبدا لي ببساطة أنني لا امتلك ما يحتاجه الأمر من مهارة،وفي الأحوال العادية كان المطاف لينتهي بي هناك وكنت سأترك هذا الأمر إلى الأبد،ولكن لحظة التجلي التي حدثت في إستاد جينجو كانت لا تزال محفورة في ذهني بوضوح .
وبالرجوع إلى أحداث الماضي أجد انه كانت عدم قدرتي على إنتاج رواية جيدة أمرا طبيعيا، لقد كان خطأ كبيرا أن افترض أن رجلا مثلي لم يكتب أي شيء طوال حياته يستطيع أن يخرج من جعبته فجأة عملا رائعا متكاملا،لقد كنت بذلك أحاول تحقيق المستحيل،وهنا قلت لنفسي انه علي أن أكف عن محاولة كتابة عمل معقد،وان أتخلى عن كافة الأفكار التوجيهية حول"الرواية"و"الأدب"وأقوم فقط بسكب أفكاري ومشاعري كما تداعت إلي،بحرية،بالطريقة التي أريدها.
وبقدر ما كان الحديث عن سكب الفرد أفكاره ومشاعره بحرية أمرا سهلا،لم يكن التطبيق بهذا القدر من اليسر،فقد كان الأمر صعبا وخاصة لمبتدئ مثلي،وانطلاقا من بداية جديدة  كان أول شيء يتعين علي فعله هو التخلص من أكوام الورق وقلمي الحبر، فطالما كانوا قابعين أمامي, سيبدو لي كل ما أفعله " أدبا"،وهنا استبدلتهم بسحب آلة الكتابة القديمة خاصتي من نوع "أوليفيتي" من الخزانة،ثم قررت على سبيل التجربة كتابة افتتاحية لروايتي باللغة الإنجليزية،وفكرت بما أنني كنت على استعداد لتجربة أي شيء،فلم لا أجرب ذلك؟
لست بحاجة لأن أذكر أن قدرتي على التعبير باللغة الإنجليزية لم تكن كبيرة،كانت مفرداتي محدودة للغاية,كما كان شأني مع بناء الجملة الإنجليزية،لم أتمكن سوى من كتابة جمل قصيرة بسيطة،الأمر الذي يعني أنه بغض النظر عما كان يجول برأسي من أفكار عديدة ومعقدة لم أكن استطيع التعبير عنها كما كانت تتداعى إلي،لم أتمكن من استخدام سوى لغة بسيطة، والتعبير عن أفكاري بعبارات سهلة الفهم,وجاءت أوصافي مجردة من الحشو العرضي غير الجوهري،فكنت الصيغة وجيزة،وكان كل شيء مرتب ليتناسب مع إطار محدود الحجم،وهنا جاءت النتيجة كنوع من النثر الفظ الخالي من الجمال،وباستمرار كفاحي للتعبير عن نفسي بتلك الطريقة  بدأ أسلوبي يحظى بإيقاع مميز خطوة بخطوة .
ونظرا لأنني ولدت ونشأت في اليابان,فقد كانت مفردات وتعبيرات اللغة اليابانية تختلج بنظامي الداخلي,مثل حظيرة مكتظة بالماشية،وحينما سعيت لوضع أفكاري ومشاعري في كلمات بدأت تلك الحيوانات تتدافع محطمة النظام ذاته،وهنا تمكنت الكتابة بلغة أجنبية بكل ما تنطوي عليه من قيود من إزالة هذه العقبة،كما قادني ذلك أيضا إلى اكتشاف قدرتي على التعبير عن أفكاري ومشاعري بمجموعة محدودة من الكلمات والتراكيب النحوية,طالما قمت بجمعها ونظمها معا بشكل فعال وبطريقة ماهرة،وخلاصة القول لقد تعلمت أنه ليس هناك حاجة لاستخدام الكثير من الكلمات الصعبة,وأنني لست مضطرا  لمحاولة إثارة إعجاب الناس بعبارات رنانة .
بعد ذلك بفترة طويلة،اكتشفت أن الكاتبة أغوتا كريستوف قد قامت بكتابة عدد من الروايات الجميلة بأسلوب كان له تأثير مماثل للغاية،وقد كانت أغوتا كريستوف روائية مجرية هربت إلى"نيوشاتيل" في سويسرا في عام 1956م أثناء الاضطرابات المعتملة ببلدها الأم ، حيث تعلمت – أو في الحقيقة أجبرت على تعلم - اللغة الفرنسية،ومن ثم فقد نجحت من خلال الكتابة بهذه اللغة الأجنبية في تطوير النمط الجديد الفريد المنسوب إليها،حيث تمكنت من صنع إيقاع قوي قائم على جمل قصيرة,أسلوب لا يعمد إلى الالتواء بل ينطلق صريحا واضحا دائما, مفعما بالوصف الصائب الخالي من الحمولات العاطفية،وقد كانت رواياتها تكتسي بجو من الغموض الذي يرجح وجود أمور هامة تختفي تحت السطح،وهنا أتذكر شعوري بالحنين بطريقة أو بأخرى حينما قرأت أعمالها للمرة الأولى،وعلى سبيل المصادفة صدرت روايتها الأولى "الدفتر الكبير"عام 1986م, بعد سبع سنوات فقط من صدور رواياتي " أسمع الريح تغني".
بعد أن اكتشفت التأثير الغريب للتأليف بلغة أجنبية,والذي اكتسبت بموجبه إيقاع إبداعي مميز خاص بي,أعدت آلتي الكاتبة "أوليفيتي" إلى الخزانة،وسحبت مرة أخرى رزمة الورق وقلمي الحبر،ثم جلست وترجمت الفصل أو ما شابه الذي قد سبق و كتبته بالإنجليزية إلى اللغة اليابانية،حسنا,ربما يكون تعبير"حاكيت" أكثر دقة,حيث لم يكن الأمر ترجمة حرفية مباشرة،و في إطار هذه العملية حتما ظهر أسلوب جديد باللغة اليابانية،ذلك الأسلوب الذي ينسب إلي، الأسلوب الذي اكتشفته بنفسي،وهنا فكرت أنني قد تبينت الأمر،هذه هي الطريقة التي يجب علي إتباعها،كانت تلك لحظة من الوضوح الخالص،سقطت فيها الغشاوة عن عيني.
قال لي بعض الناس:"يحمل عملك طابع الترجمة"،والمعنى الدقيق لهذا العبارة لا ينطبق علي،ولكنني اعتقد أنها تصيب الحقيقة من جانب وتخطئها تماما في الجانب الأخر،فهذا التعليق لا يشوبه الخطأ كليا بالنظر إلى حقيقة أن الفقرات الافتتاحية لأولى رواياتي القصيرة  كانت بالمعنى الحرفي"مترجمة"،ولكن ذلك لا ينطبق سوى على عملية الكتابة فحسب،فما كنت أسعى إليه عبر الكتابة باللغة الإنجليزية أولا ومن ثم الترجمة إلى اللغة اليابانية كان بدافع خلق أسلوب بسيط محايد يسمح لي بقدر أكبر من الحرية،فلم يكن اهتمامي منصبا على خلق صيغة مخففة من اللغة اليابانية،بل كنت أرغب في نشر نوعا من اللغة اليابانية بعيدا بقدر الإمكان عما يسمى اللغة الأدبية من أجل أن أعبر بالكتابة بصوتي الطبيعي،وقد تطلب هذا إجراءات يائسة،وقد أذهب بعيدا إلى حد القول أنني في ذلك الوقت ربما نظرت إلى اليابانية بأنها ليست أكثر من مجرد أداة وظيفية.
وقد أعتبر بعض النقاد ذلك إهانة تهدد لغتنا القومية،تلك اللغة الصعبة للغاية,وإن كان تماسكها يدعمه تاريخ طويل،تلك اللغة التي لا يمكن أن تضيع أو تتضرر استقلاليتها بشكل جاد مهما تم تناولها ومعالجتها,حتى لو كان هذا العلاج قاسيا إلى حد ما،إنه حق أصيل لجميع الكتاب أن يختبروا إمكانيات اللغة بكل طريقة يمكنهم تخيلها،فلولا روح المغامرة لما ولد أي جديد، يختلف أسلوبي في اللغة اليابانية عن أسلوب "تانيزاكي"،كما يختلف مع أسلوب "كواباتا"،وهذا هو الطبيعي، ففي النهاية أنا شخص أخر،كاتب مستقل اسمه "هاروكي موراكامي".
كان صباح يوم الأحد،في أحد أيام فصل الربيع المشمسة حينما تلقيت مكالمة هاتفية من محرر بمجلة "غونزو"الأدبية، يخبرني أن رواية"أسمع الريح تغني"صارت على قوائم المرشحين لجائزة الكتاب المبتدئين،كان قد مر ما يقارب العام على افتتاحية الموسم في إستاد "جينجو" وكنت قد بلغت الثلاثين من عمري، كان ذلك في حوالي الحادية عشرة صباحا,لكنني كنت ما أزال مستغرقا بنومي,بعد أن عملت إلى وقت متأخر جدا من الليل في الليلة السابقة، التقطت سماعة الهاتف بشكل مهزوز,ولم يكن لدي أدنى فكرة في البداية عمن كان على الطرف الآخر,أو ما الذي كان يود إخباري،وحقيقة لقد كنت قد نسيت تماما في ذلك الوقت أنني قد أرسلت رواية "أسمع الريح تغني" إلى مجلة "غونزو"،فبمجرد أن انتهيت من كتابة النص ووضعته في يد شخص آخر،سكنت رغبتي في الكتابة تماما،فقد كان تأليف تلك الرواية– إن جاز التعبير- ضرب من التحدي،فقد كتبتها بكل سهولة و يسر,تماما كما تداعت إلي,لذا  لم تخطر لي أبدا فكرة أنها قد تكون على قائمة المرشحين لأي جائزة،في الحقيقة كنت قد أرسلت لهم النسخة الوحيدة من الرواية،فلو لم يقع اختيارهم عليها لربما كانت تلك الرواية قد ضاعت إلى الأبد،(حيث أن مجلة غونزو لا تعيد النصوص المرفوضة إلى أصحابها)،وربما لم أكن على الأرجح لأكتب أي رواية أخرى،ما أغرب هذه الحياة !
قال لي المحرر أن ثمة خمسة متنافسين على المركز النهائي،كنت أنا أحدهم،لا أنكر شعوري بالمفاجأة لكنني كنت أيضا أشعر بالنعاس الشديد,ومن ثم لم استوعب جيدا حقيقة ما حدث،فنهضت من الفراش واغتسلت وارتديت ملابسي وذهبت للتنزه مع زوجتي،بمجرد أن تجاوزنا مدرسة الحي الابتدائية,لاحظت وجود أحد الحمامات الزاجلة مختبئة في الشجيرات، حينما التقطتها رأيت أنها تبدو مكسورة الجناح،وقد تم وضع علامة معدنية على ساقها،فحملتها برفق في يدي وتوجهت بها إلى أقرب مركز شرطة في "أوياما-أوموتيساندو"،وبينما كنت أسير هناك على طول الشوارع الجانبية في "هاراجوكو"،ذاب دفء الحمامة المجروحة في يدي،و شعرت بها ترتجف،في ذلك الأحد الذي كان مشرقا وصافيا  تتألق فيه الأشجار والمباني وواجهات المتاجر جمالا في ضوء شمس الربيع.
عندها صدمتني الفكرة،أنا على وشك الفوز بالجائزة،وأنا أمضي في طريقي لأصبح روائيا يحظى بقدر من النجاح،كان ذلك افتراضا جريئا,لكنني كنت على يقين في تلك اللحظة أن هذا ما سيحدث،على يقين تام،ليس بطريقة نظرية ولكن بشكل مباشر وبديهي.
قمت بكتابة رواية "الكرة والدبابيس، 1973" في العام التالي كتكملة لرواية "أسمع الريح تغني"،وكنت ما زلت أدير مقهى موسيقى الجاز,مما يعني أن رواية " الكرة والدبابيس، 1973"قد كتبت أيضا في وقت متأخر من الليل على طاولة المطبخ،ولذلك فإنني بالحب  المختلط بقليل من الحرج أطلقت على هذين العملين "روايات طاولة المطبخ"،وبعد وقت قصير من انتهائي من كتابة رواية " الكرة والدبابيس،1973" قررت أن أصبح كاتبا متفرغا،فقمنا ببيع  المقهى،وبدأت على الفور العمل على أولى رواياتي الطويلة "مطاردة الخراف البرية",والتي أعتبرها البداية الحقيقية لمسيرتي كروائي.
ومع ذلك لعب هذان العملان القصيران دورا هاما فيما حققته من نجاح،فلا يمكنني الاستغناء عنهما بالكلية،تماما مثل الأصدقاء القدامى،ممن يبدو على الأرجح أننا لن نجتمع مرة أخرى أبدا, ولكنني لن أنسى صداقتهم أبدا،فقد كان وجودهما ثمينا حاسما في حياتي آنذاك،لقد أثلجا صدري وشجعاني على المضي في دربي.
ما زلت أذكر بوضوح تام شعوري حين استقر ذلك الشيء –أيا كان- الذي هبط يرفرف من السماء في راحة يدي قبل ثلاثين سنة على العشب وراء سياج ملعب البيسبول في إستاد "جينجو"،كما أذكر بنفس الوضوح دفء الحمامة الجريحة التي التقطتها في تلك الأيدي نفسها ذات ظهيرة ربيعية بعد عام من ذلك بالقرب من مدرسة "سانداغايا" الابتدائية،أستدعي تلك الأحاسيس كلما تدبرت معنى أن أكتب راوية،حيث تعلمني ملامسة تلك الذكريات أن أؤمن  بالشيء الذي أحمله بداخلي,وأن أحلم بما يوفره لي من إمكانيات،كم هو رائع أن أحتفظ بتلك الذكريات في داخلي  حتى اليوم.