الأحد، 14 أغسطس 2016

كيف تغلبت على خوفي من الطيران...ماريو بارغاس يوسا

كيف تغلبت على خوفي من الطيران
ماريو بارغاس يوسا
ترجمة: عبدالله الزماي

          ثمة بعض السذج الذين يظنون أن الخوف من الطيران هو –أو يمكن تفسيره- بالخوف من الموت. إنهم مخطئون, الخوف من الطيران هو خوف من الطيران فحسب, ليس من الموت, الخوف بالشكل الخاص والدقيق كما الخوف من العناكب أو الفراغ أو القطط, ثلاثة أمثلة منتشرة  والتي تشكل غطاء واقيا لمخاوف البشرية. الخوف من الطيران يحدث فجأة, عندما يدرك  الأشخاص الغير مفتقرين  الخيال والحساسية أنهم على ارتفاع 30 الف قدم  في الجو , مسافرون عبر السحب بسرعة ثمانمائة ميل في الساعة, ويتساءلون "ماذا أفعل هنا بحق الجحيم؟", ويبدءون بالرعشة.
          هذا ما حدث معي, بعد سنوات عديدة من ركوب ونزول الطائرة بقدر ما اعتدت تبديل قمصاني.واصلت امتطاء هذه الصواريخ المحمولة جوا, لكن لفترة طويلة, كانت دلاء من العرق تتصبب مني في كل رحلة, خصوصا حينما نواجه مطبات جوية  صديقتي الأكثر بهجة المضيفة الجوية "ساسو" التي تشعر أكثر أمانا فوق الغيم منها على اليابسة, والتي كانت تقهقه ساخرة من حالة الذعر التي انتابتني في الجو, حاولت أن تعالجني بمعاونتي بالإحصاءات. أثبتت لي ما يعرفه كل شخص. أن السفر بالطائرة أكثر أمانا بكثير من السفر بالسيارة أو القارب أو القطار أو حتى الدراجة أو حتى على الزلاجة  لأنه في كل عام كثير من الأشخاص تحصل لهم حوادث باستخدام تلك الأشكال من النقل أكثر. حتى المشي سيرا على الأقدام في نزهة لطيفة وغير ضارة أكثر خطورة من الناحية الإحصائية من الذهاب بالطائرة. لكن في حالتي الإحصاءات لوحدها لم تكن قادرة على إثارة عواطفي وتبديد مخاوفي, لذا على الرغم من كوني  مقتنعا بشكل عقلاني بالأرقام التي حرثت من خلال السماء داخل الطائرة أكثر أمانا من غرفتي, تواصل وقتي العصيب في كل رحلة.
          رافقني صديقي الروائي الاوروغواياني الراحل "كارلوس مارتينيز مورينيو" ذات مرة في الطائرة, قضى الرحلة كلها ممسكا بنسخة بالية ورثة من كثرة المداولة من رواية "مدام بوفاري", والتي لم يقرأها, لكنه داعبها  باستمرار. كانت التميمة التي ضمنت له رحلة سليمة وآمنة. قال أنه أخذ هذا الكتاب في أول رحلة له ثم أتخذه لاحقا رفيقا في جميع الرحلات الأخرى, لأن الحدس والخيال والجنون أخبروه أن هذا الطلسم الروائي و ليس دوران المحركات السلس  ولا مهارة الطيارين هي التي تحافظ على الطائرات التي يستقلها في السفر سالمة من أية مكروه أو حادث. لكن علاج "مارتينيز مورينو" لم يجد بالنسبة لي, بسبب شكوكي القوية بأي شكل من أشكال السحر (خصوصا الحديثة), أو ببساطة لأنها لم تأت بعد التعويذة التي تدفعني وترغمني على الإيمان بالسحر.
          صديقتي البورتوريكوية أرملة ثرية تسافر حول العالم, كشفت لي أنها قد شفيت من خوفها من الطيران بواسطة "الويسكي", دائما ما تأخذ إمدادات جيدة معها على متن الطائرة, مخبأة في حقيبة صغيرة, وبرشفتين أو ثلاث, يمكن أن تشقلب السفينة أو تلقي بها الرياح بينما هي ضاحكة وسعيدة, منيعة  لكل شيء. حاولت أن أطبق طريقتها لكنها لم تكن مجدية بالنسبة لي. أنا أعاني من الحساسية تجاه "الكحول" جريعات  الويسكي, لن تقوى على  إزالة مخاوفي من الطيران, بل ستزيده و تصيبيني بالصداع و الغثيان و الرجفان  . ربما كنت بحاجة إلى أن أكون عربيدا, أرى الرجال صغارا خضرا , لأكون لامباليا من الطيران الذي تمكنت منه صديقتي البورتوريكوية برشفات قليلة من "الكحول". ربما يكون الدواء أكبر ضررا من الداء.
          على النقيض من صديقتي البورتوريكوية, يزعم بعض المتشددين أن الخوف من الطيران هو نتيجة لوجبات الطعام الثقيلة والتناول المفرط للمشروبات الروحية "النبيذ والكحول" على متن الرحلة. و لاجل راحتي النفسية  في الجو, أوصوني بالامتناع عن تناول الطعام وشرب الخمر في الرحلات الجوية, وانما مجرد شرب كؤوسا كبيرة من الماء  , و التي هي بالنسبة لهم تعتبر مسكنة . إلا أن ذلك لم يجد معي أيضا. بل على العكس, إرغامي لنفسي على تناول هذه الوجبات جعلني بائسا جدا,وأضاف لمخاوفي عذاب الجوع و الذهاب الى الحمام  .
          "سيكونال " و"زاناكس" وكل تلك الحبوب الأخرى التي اخترعت لعلاج الارق ,أي منها لم يجد بالنسبة لي. ثمة أشخاص رائعون (استحقوا إعجابي وغبطتي) الذين يتخدرون على الفور على متن الطائرة والذين ينامون بشكل طبيعي طوال الرحلة كلها, يركنون بواسطة أزيز المحركات. وغيرهم ممن, لأجل الوصول إلى تلك الحالة  نفسها, يحشون بطونهم بالحبوب  التي تذهلهم وتخدرهم. لكن الحبوب المنومة سببت لي  الخفقان أو الكوابيس الأكثر ترويعا التي رأيت فيها نفسي و قد تعرقت من الخوف داخل الطائرة.لذا النوم الاصطناعي النسبي الناجم عن الأدوية, لم يزل خوفي, لكن بدلا من ذلك استبدله بطائرة في اللاوعي و الحلم , وكما كان له أثر جانبي آخر,ادخلني في حالة من اللاحياة المتلبسة بالاكتئاب في نهاية الرحلة.
          جاء الحل بطريقة غير متوقعة, في رحلة بين "بيونس آيرس" و"مدريد" والتي ذكرتني بالصدفة بأول رحلة لي بين هاتين المدينتين (بواسطة خطوط الطيران الآيبيرية, دوغلاس DC4) في الثاني والعشرين من سبتمبر لعام 1946م. اشتريت من مطار "إيزيزا" رواية قصيرة لأليخو كاربنتييه التي لم أكن قد قرأتها "مملكة هذا العالم". لاشيء, أعدني للمفاجأة . من الأسطر الأولى للرواية, التي تعيد خلق  حياة الهلوسة التي يعيشها  "هنري كريستوف" وبناء القلعة الشهيرة في "هاييتي", كان هذا مكتوبا بطريقة رائعة وحتى الرواية قد بنيت  بشكل رائع كما هو الحال في جميع الروائع الأدبية, لا شيء يمكن أن يضاف أو يحذف, امتصتني جسدا وروحا واقتادتني بعيدا عما يحيط بي ونقلتني لعشر ساعات أو نحو ذلك هي مدة  الرحلة, بعيدا عن الليل المتجمد ذو النجوم المتلألئة  إلى  ملحمة مذهلة عن "هاييتي" في القرن الماضي, حيث العنف الأكثر شراسة يتداخل مع الخيال الأكثر حميمية, حيث المعجزات والأساطير وصمت الحياة اليومية و أحداثها التافهه . انتهت السطور الأخيرة عند هبوط الطائرة في "باراخاس", كان الكتاب قد استغرق الرحلة, وأخذني بعيدا عن مخاوفي طوال الرحلة.

          إنه العلاج الذي منذ ذلك الوقت لم يخيبني  أبدا, طالما اخترت لكل رحلة التحفة التي تستغرق كل المدة التي أواجه فيه المعنى الحقيقي لقانون الجاذبية حتى نهايته . لم يكن اختيار العمل المناسب سهلا بطبيعة الحال, من حيث الجودة والحجم لكل رحلة.لكنني مع الممارسة طورت نوعا من الغريزة في اختيار الرواية أو القصة الصحيحة (الشعر أو المسرحيات أو المقالات لم تكن غنية وقوية ضد مخاوفي من الطيران). اكتشفت أيضا انه ليس من الضروري أن تكون أعمالا جديدة, يمكن لإعادة القراءة أن تكون فعالة و منعشة بالنحو الذي يقدمه العمل محل الاختيار  في القراءة الثالثة أو الرابعة كما كانت عليه في المرة الأولى. هنا قائمة (كعربون تقدير) لهؤلاء الأصدقاء الموثوقين الذين كانوا كايكاروس اثناء محاولاتي الأخيرة الناجحة  ساعدوني في التغلب  على مخاوفي من الطيران "بارتبلي و"بينيتو سيرينو " لهيرمان ميلفيل. "مطلع برغي" لهنري جيمس و"المطارد" لخوليو كورتاثار و"الدكتور جيكل ومستر هايد" لروبرت لويس ستيفنسون, و"الشيخ والبحر" لهمنجواي, و"القرد" لإسحاق دينيسين, و"بيدرو بارامو" لخوان رولفو, و"الأعمال الكاملة وقصص أخرى" لمونتيروسو, و"وردة لأميلي" و"الدب" لوليام فوكنر, و"أورلاندو" لفيرجيينا وولف. لحسن حظي أن مخزن الصيدلية الأدبية يمتلك احتياطات لا حدود لها من هذه الأدوية, لذلك لا يزال لدي الكثير من رحلات الطيران و"القراءة الجيدة" في القادم من الأيام.