السبت، 1 أكتوبر 2016

كحالم غير واقعي... هاروكي موراكامي

كحالم غير واقعي
هاروكي موراكامي
22 يناير 2011م
ترجمة: عبدالله الزماي

          كانت آخر مرة زرت فيها "برشلونة" قبل عامين في فصل الربيع. شاركت في حفل توقيع أحد كتبي, وكنت متفاجئا  كيف اصطف العديد من القراء ليحصلوا على توقيعي. استغرق الأمر أكثر من ساعة ونصف لأتمكن من التوقيع لهم جميعا, لأن العديد من القارئات كن يردن تقبيلي. كل هذا استغرق بعض الوقت.
          شاركت في حفلات توقيع في العديد من المدن الأخرى في جميع أنحاء العالم, ولكن في برشلونة وحدها كان ثمة قارئتان يردن تقبيلي. حتى لو كان لهذا السبب فقط , أدهشني أن برشلونة مكانا استثنائيا تماما. أنا سعيد جدا بالعودة إلى هذه المدينة الجميلة, التي تزخر بمثل هذا التاريخ الغني والثقافة الرائعة.
          لكنني متأسف للقول أن اليوم, علي  أتحدث عن شيء أكثر خطورة من القبلات.
          كما تعلمون جميعا أنه في الساعة الثانية وست وأربعين دقيقة مساء يوم الحادي عشر من مارس, ضرب زلزال ضخم منطقة شمال شرق اليابان. كانت قوة هذا الزلزال كبيرة لدرجة أن الأرض دارت حول محورها بشكل أسرع, وقصر اليوم بمقدار 1,8 مليون جزء من الثانية.
          كانت الأضرار الناجمة عن الزلزال نفسه كبيرة جدا, لكن الفيضان الناجم عن الزلزال تسبب بدمار أكبر بكثير. وصل ارتفاع أمواج الفيضان  في بعض الأماكن إلى تسعة وثلاثين مترا, في مواجهة مثل هذه الموجة الهائلة فإن حتى الطابق العاشر في المباني العادية لا يوفر ملاذا لأولئك الذين وقعوا في طريقه. لم يجد الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من الساحل وقتا للهروب, ولقي حوالي أربع وعشرون ألف شخص حتفهم, و حوالي تسعة آلاف منهم ما يزالون في عداد المفقودين. حطمت الموجة الهائلة الحواجز وحملتها بعيدا, ولم نتمكن بعد من العثور على جثامينهم. الكثير منهم على الأرجح قد غابوا في ظلمات البحر المتجمد, حينما توقفت للتفكير بهذا الأمر, وتخيلت أنني قد أواجه مثل هذا المصير المفزع, ضاق صدري.فقد العديد من الناجين أسرهم وأصدقاءهم ومنازلهم وممتلكاتهم ومجتمعاتهم والأشياء الأساسية في حياتهم. دمرت قرى بكاملها تماما. فقد العديد من الناس كل أمل في الحياة.
          أعتقد أن كونك يابانيا يعني أن تعيش مع الكوارث الطبيعية , من الصيف إلى الخريف, تمر الأعاصير بجزء كبير من اليابان. وتسبب كل سنة أضرارا واسعة النطاق, وتفقد العديد من الأرواح. ثمة العديد من البراكين النشطة في كل منطقة. وبالطبع, ثمة العديد من الزلازل. تتموضع  اليابان غير مستقرة على أربع صفائح "تكتونية" في أقصى شرق القارة الآسيوية. يبدو الأمر كما لو أننا نعيش في عش للزلازل.
          يمكننا التنبؤ بمسار وتوقيت الأعاصير إلى حد أكبر أو اقل, لكن لا يمكننا التنبؤ أين ومتى ستحدث الزلازل. كل ما نعرفه أن هذا الزلزال لن يكون الأخير, وأن آخر سيقع بالتأكيد في المستقبل القريب. يتوقع العديد من المختصين أن زلزالا شدته 8 ريختر سيضرب "طوكيو" في العشرين أو الثلاثين سنة القادمة. قد يحدث في غضون عشر سنوات, وقد يحدث بعد ظهر الغد. لا أحد يمكنه التنبؤ بأي يقين عن مدى الأضرار اللاحقة لو أن زلزالا داخليا ضرب مثل هذه المدينة المكتظة بالسكان مثل طوكيو.
          على الرغم من هذه الحقيقة ثمة ثلاثة عشر مليون نسمة يعيشون حياة عادية في منطقة طوكيو وحدها. يستقلون القطارات المزدحمة للذهاب إلى مكاتبهم, ويعملون في ناطحات السحاب. حتى بعد أن وقع هذا الزلزال, لم أسمع أن عدد سكان طوكيو قد انخفض.
          لماذا؟ قد تتساءلون. كيف يمكن للكثير من الناس أن يمارسوا حياتهم الطبيعية في هذا المكان الرهيب؟ ألا يصيبهم الهلع ؟
          لدينا في اللغة اليابانية كلمة (無常). تعني أن كل شيء سريع الزوال. كل شيء وجد في هذا العالم يتغير وسيختفي في نهاية المطاف. لا يمكن لشيء أن يعتبر أبديا أو غير قابل للتغيير. اشتقت هذه الرؤية للعالم من الديانة "البوذية", لكن فكرة (無常) ذابت في روح الشعب الياباني خارج السياق الديني, ورسخت في الوعي العرقي المشترك منذ العصور القديمة.
          فكرة أن كل شيء إلى زوال هي تعبير عن "الاستسلام ", فنحن نعتقد أنه لا فائدة من مواجهة الطبيعة. على العكس من ذلك, يجد الشعب الياباني تعبيرا إيجابيا للجمال في هذه الحالة من الاستسلام .
          إذا كنا نفكر في الطبيعة على سبيل المثال, فنحن نعتز بأزهار الكرز في الربيع واليراعات في الصيف, وأوراق الأشجار الحمراء في الخريف. من الطبيعي بالنسبة لنا أن ننظر إليها بشغف, كلها كشكل من التقاليد. قد يكون من الصعب العثور على غرفة في فندق بالقرب من المواقع المفضلة المعروفة بأزهار الكرز واليراعات وأوراق الشجر الحمراء في موسم كل منها, حيث أن مثل هذه الأماكن مزدحمة دائما بالنزلاء.
          لماذا يحدث هذا؟
          يمكن أن تجدوا الإجابة في حقيقة أن أزهار الكرز واليراعات وأوراق الشجر الحمراء تفقد جمالها في غضون فترة قصيرة من الزمن. إننا نسافر من بعيد لنشهد هذه اللحظة المجيدة. ونشعر بالارتياح نوعا ما من أنها ليست جميلة فحسب, بل هي بالفعل بدأت تسقط على الأرض, لتفقد بريقها الضئيل أو جمالها الحي. نجد راحة البال في حقيقة أنها وصلت لذروة الجمال وبدأت تتلاشى بالفعل.
          لا أعرف إن كانت قد أثرت الكوارث الطبيعية بمثل هذه العقلية. مع ذلك, أنا متأكد أنه في معنى من المعاني  سنكون قادرين بشكل جماعي من التغلب على الكوارث الطبيعية المتتالية, ونتقبل ما لا يمكن تجنبه بحكم هذه العقلية. ربما أن بعض التجارب أيضا قد شكلت مفهوم الجمالية لدينا.
          الأغلبية الساحقة من الشعب الياباني قد صدموا بشدة من هذا الزلزال. في حين أننا قد نكون اعتدنا على الزلازل, ما زلنا غير قادرين على تفهم حجم الدمار. نشعر بالعجز أو الحرص على مستقبل بلدنا.
          سنجمع في نهاية المطاف الطاقة الذهنية اللازمة لننهض ونعيد البناء. ليس لدي أية مخاوف معينة في هذا الصدد.
          بهذه الطريقة صمدنا طوال تاريخنا الطويل. هذه المرة أيضا, بالتأكيد لن نظل جامدين في حالة الصدمة إلى الأبد. يمكن أن يعاد بناء المنازل المحطمة والطرق المقطوعة يمكن أن تستعاد.
          بإمكانكم أن تقولوا أننا نعيش كضيوف غير مدعوين على كوكب الأرض. كوكب الأرض لم يطلب منا أن نعيش هنا. إذا اهتزت الأرض قليلا لا يمكننا أن نشكو لأن الاهتزازات من وقت لآخر هي مجرد واحدة من سلوكيات الأرض الطبيعية. سواء أعجبنا ذلك أم لا, يجب أن نتعايش مع الطبيعة.
          ما أود التحدث عنه هنا هو ليس شيئا من هذا قبيل المباني والطرق التي يمكن إعادة بنائها, ولكن بدلا من ذلك عن الأشياء التي لا يمكن إعادة بنائها بسهولة كالأخلاق والقيم. هذه الأمور ليست ملموسة ماديا. إذا انكسرت مرة فمن الصعب استعادتها, ولا يمكن ان يتحقق هذا بواسطة الآلات والعمال والمواد.
          ما أود التحدث عنه بمزيد من الاهتمام  هو محطة "فوكوشيما" للطاقة النووية.
          غالبا  فإنكم تعرفون أنه لم يتم بعد اصلاح ثلاثة من أصل ستة من المفاعلات النووية التي تضررت من الزلزال و الفيضان, واستمرت في تسريب الإشعاع من حولها. وقعت الانهيارات وتلوثت التربة المحيطة بها. وقد غابت  المياه التي ربما تحتوي على نسب عالية من الإشعاع في المحيط, وحملت الرياح الإشعاع إلى مناطق أبعد.
          مئات الآلاف من الناس أخلوا منازلهم ومزارعهم وهجرهم ومصانعهم ومراكزهم التجارية وموانئهم وتخلوا عنها تماما, هجروها الآن. أولئك الذين عاشوا هناك قد لا يتمكنوا من العودة للعيش هنا أبدا. إنه لمن المحزن لي أن أقول أن الأضرار الناجمة عن هذا الحادث ليست مقصورة على اليابان, ولكنها ستمتد إلى الدول المجاورة كذلك.
          السبب في حدوث هذا الحادث المأساوي هو أقل أو أكثر وضوحا. لم يتصور الأشخاص الذين أنشئوا هذه المحطات النووية أن فيضانا  كبيرا سيضربها . أشار بعض الخبراء أن فيضانا على مستوى مماثل ضرب هذه المناطق سابقا , وأصروا على أنه يجب إعادة النظر في معايير السلامة. ومع ذلك, تجاهلتهم شركات الطاقة الكهربائية. كغيرها من المشاريع الاستثمارية لم ترغب هذه الشركات أن تنفق أموالا اضافية  للإعداد لفيضان قد يحدث مرة واحدة فقط كل بضع مئات من السنين.  
          يبدو لي أن الحكومة التي من المفترض أن تضمن أقصى تدابير السلامة والأمان الممكنة لبناء المحطات النووية, خفضت هذه المعايير الوقائية من أجل تعزيز توليد الطاقة النووية.
          يجب علينا التحقق في هذه الحالة, من وجود الأخطاء التي يجب تصحيحها. اضطر مئات الآلاف من الناس لترك أراضيهم, ورأوا حياتهم تنقلب رأسا على عقب. نحن غاضبون من هذا, هذا الغضب هو مجرد غضب طبيعي.
          لسبب ما, نادرا ما يغضب الشعب الياباني. نحن نعرف كيف نكون صبورين  لكن لسنا جيدين في اظهار غضبنا  . نحن بالتأكيد مختلفون عن الناس في "برشلونة" في هذا الصدد. لكن هذه المرة حتى الشعب الياباني أصبح غاضبا بشكل جدي.
          في الوقت نفسه يجب أن نكون ناقدين لأنفسنا على التسامح والسماح لهذه الأنظمة الفاسدة بالبقاء حتى الآن.
          يجب ألا ينفصل هذا الحادث عن أخلاقنا وقيمنا.
          تفرد الشعب الياباني كما تعرفون في تجربة الهجمات النووية. ألقت طائرات أمريكية قنبلتين ذريتيين في أغسطس عام 1945م على اثنتين من المدن الرئيسية "هيروشيما وناجازاكي" مما أدى إلى مقتل أكثر من مائتي ألف نسمة.أغلب الضحايا من المدنيين العزل والأشخاص العاديين. مع ذلك, ليس هذا هو الوقت المناسب بالنسبة لي لمراجعة الحق والباطل في هذا.
          ما أود الإشارة إليه هنا ليس أن مائتي ألف نسمة لقوا حتفهم عقب الانفجار النووي, ولكن أيضا أن العديد من الناجين أخذوا يموتون لاحقا من أثر الإشعاع على مدى فترة طويلة من الزمن. وكانت معاناة أولئك الضحايا هي من أظهرت لنا الدمار الرهيب الذي جلبه الإشعاع للعالم ولحياة الأشخاص العاديين.
          كان لدينا سياستان بعد الحرب العالمية الثانية. كانت واحدة العمل على الانتعاش الاقتصادي, وكانت الأخرى الابتعاد عن الحروب. أردنا التخلي عن استخدام القوات المسلحة, والنمو بازدهار أكبر, و تحقيق السلام. أصبحت هذه الأفكار هي السياسات الجديدة ليابان ما بعد الحرب.
          نحتت الكلمات التالية على النصب التذكاري لضحايا القنبلة النووية في "هيروشيما" :"دع جميع الأرواح هنا ترقد بسلام, لأننا يجب ألا نكرر الشر".
          هذه الكلمات النبيلة في الواقع, التي تعترف أننا في الحقيقة ضحايا وجناة في الوقت نفسه. هذا صحيح أيضا عندما يتعلق الأمر بالطاقة النووية. نحن جميعا ضحايا. علاوة على ذلك, منذ أطلقنا العنان لهذه القوة, ثم لم نستطع منع أنفسنا من استخدامها, فنحن جناة أيضا.
          بعد ست وستين سنة من الانفجار النووي, تنشر الآن مفاعلات "فوكوشيما داي آشي" النووية اشعاعاتها منذ ثلاثة أشهر, لوثت التربة والمحيطات والهواء من حولها. لا أحد يعلم كيف ومتى يمكننا أن نوقف هذا. هذا المصدر الثاني للدمار الناجم عن الطاقة النووية في اليابان, لكن في هذا العصر لا احد يلقي قنبلة ذرية, نحن اليابانيون مهدنا بطريقتنا الخاصة لهذه المأساة. ارتكاب أخطاء جسيمة وساهمنا  بتدمير أراضينا و أرواحنا .
          لماذا حدث هذا؟ ماذا حدث لرفضنا للطاقة النووية بعد الحرب العالمية الثانية؟ ما الذي أفسد أهدافنا لمجتمع سلمي ومزدهر, والذي كنا نسعى إليه بجد؟
          السبب بسيط. السبب هو "الكفاءة".
          أصرت شركات الطاقة الكهربائية على أن المحطات النووية توفر نظاما فعلا لتوليد الطاقة. بعبارة أخرى, كان النظام الذي يجعلهم يستخلصون الربح. من جانبها شككت الحكومة اليابانية باستقرار إمدادات النفط, لاسيما منذ أزمة النفط, وروجت لتوليد الطاقة النووية كسياسة وطنية. أنفقت شركات الطاقة الكهربائية مبالغ طائلة من المال على الإعلانات, وبالتالي رشت وسائل الإعلام لتلقين الشعب الياباني بوهم أن توليد الطاقة النووية آمنا بالكامل.
          و في وقت وجيز كانت 30% من الكهرباء يتم توليدها بواسطة الطاقة النووية. اليابان الدولة الكائنة على جزيرة صغيرة كثيرا ما تتعرض للزلازل, أصبحت ثالث بلد رائد في توليد الطاقة النووية, قبل  حتى أن يدرك الشعب الياباني ما حدث.
          تجاوزنا نقطة اللاعودة, لقد تم ذلك بالفعل. أولئك الذين يشككون بتوليد الطاقة النووية يواجهون الآن السؤال المخيف "هل ستكون بجانب النقص في الطاقة الكهربائية؟". الشعب الياباني وصل حد  الإيمان بأن الاعتماد على الطاقة النووية أمر لا مفر منه. العيش دون مكيفات أثناء الصيف الياباني الحار والرطب أشبه بالتعذيب. نتيجة لذلك, أولئك الذين يضمرون الشك حول توليد الطاقة النووية وصموا بأنهم "حالمون غير واقعيين".
          هكذا وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم. محطات الطاقة النووية التي كان من المفترض أن تكون فعالة, بدلا من ذلك تعرض لنا صورة من الجحيم. هذا هو الواقع.
          ما يسمى بالواقع  الذي  أعلن عنه هؤلاء الذين يروجون للطاقة النووية, مع ذلك, هي ليست واقعا  على  الإطلاق. ليس أكثر من راحة سطحية", حيث يختلط منطقهم المعيب مع الواقع نفسه.
          شكل هذا الوضع انهيار أسطورة ما يتعلق ببراعة اليابان التكنولوجية, التي كان الشعب الياباني فخورا بها, بالإضافة إلى ذلك, سمح هذا المنطق المشوه أن يمثل هزيمة للأخلاق والقيم اليابانية الحالية. نحن الآن نلقي اللوم على شركات الكهرباء والحكومة اليابانية, وهذا حقيقي وضروري. مع ذلك, في الوقت نفسه يجب أن نشير بأصابع الاتهام إلى أنفسنا. نحن ضحايا وجناة في الوقت نفسه, ويجب أن نأخذ هذه الحقيقة على محمل الجد. إذا فشلنا بالقيام بذلك, سنقع في نفس الخطأ مرة أخرى.
          "دع جميع هذه الأرواح ترقد هنا بسلام, لأننا يجب ألا نكرر الشر".
          يجب أن نحفظ الكلمات عن ظهر قلب.
          ذهل الدكتور روبرت أوبنهايمر الذي كان المهندس الرئيسي للقنبلة الذرية من الدمار الذي لحق بهيروشيما وناجازاكي جراء الهجمات النووية. قال ذات مرة للرئيس ترومان :"السيد الرئيس, ثمة دم على يدي".
          تناول ترومان منديلا أبيض شفافا وأنيقا من جيبه وقال :"امض بتنظيفهم".بالطبع ليس ثمة منديل نظيف في العالم كبير كفاية لإماطة هذه الكمية الكبيرة من الدم.
كان من المفترض علينا كيابانيين أن نقول لا بشكل صارم للطاقة النووية هذا ما اعتقده
          كان علينا نحن اليابانيون أن نعمل على تطوير مصادر بديلة للطاقة لتحل على المستوى الوطني محل الطاقة النووية, من خلال عصارة كل التكنولوجيا القائمة والحكمة ورأس المال الاجتماعي. حتى لو سخر منا الناس في جميع أنحاء العالم بقولهم :"الطاقة النووية هي نظام التوليد الأكثر فعالية والشعب الياباني غبي فعلا في عدم استخدامه", ينبغي أن نبقي على نفورنا من الطاقة النووية المحفز بتجربتنا السابقة مع الأسلحة النووية.
كان من المفترض علينا أن نجعل توليد الطاقة غير النووية حجر الزاوية في سياستنا بعد الحرب العالمية الثانية. هذه يجب أن تكون طريقتنا لتحمل مسئوليتنا الجماعية تجاه ضحايا هيروشيما وناجازاكي. نحتاج في اليابان إلى الأخلاق القوية والقيم القوية والرسائل الاجتماعية القوية. ستكون هذه فرصة للشعب الياباني ليقدم مساهمة حقيقية للعالم. مع ذلك, أهملنا أن نأخذ هذا الطريق المهم, وفضلنا اتخاذ المسار السريع "الكفاءة" في دعم تنميتنا الاقتصادية السريعة.
          كما ذكرت آنفا, يمكننا التغلب على الأضرار الناجمة عن الكوارث الطبيعية, مهما كانت  مروعة و كبيرة  . وأحيانا قد تنمو أرواحنا أقوى وأكثر عمقا من خلال عملية التغلب. هذا بالتأكيد شيء يمكننا تحقيقه.
          إن إعادة بناء الطرق والمباني المحطمة هي مهمة الخبراء, ولكن الواجب على كل واحد منا هو استعادة أخلاقنا وقيمنا التالفة. يمكننا أن نبدأ الحداد على الذين لقوا حتفهم, من خلال رعاية ضحايا هذه الكارثة,وتنمية الرغبة الطبيعية لدينا في عدم السماح لألمنا وإصاباتنا في العبث بنا. هذا سيتمثل في السعي المضني بحرص و صمت . علينا أن نوحد جهودنا لتحقيق هذه الغاية, على غرار جميع سكان القرية الذين يخرجون معا لزراعة الحقول وبذر النباتات في صباح ربيعي مشمس. كل واحد يعمل ما يستطيع, كل القلوب متحدة معا.
          نحن الكتاب المحترفون الذين على دراية باستخدام الكلمات لدينا أيضا مساهمة إيجابية في هذه المهمة الجماعية على نطاق واسع. يجب علينا ربط القيم والأخلاق الجديدة بالكلمات الجديدة, وبالتالي إبداع وبناء قصص حيوية جديدة. سنكون قادرين بعد ذلك على مشاركة  هذه القصص, سيكون لها الإيقاع الذي يمكن أن يشجع الناس, تماما مثل الأغاني التي يغنيها القرويون حين زرع البذور. أعدنا بناء اليابان التي دمرت بالكامل في الحرب العالمية الثانية. وعلينا الآن أن نعود إلى نقطة البداية نفسها مرة أخرى.
          كما ذكرت في بداية الخطاب, نحن نعيش في عالم متغير وعابر (無常). كل الحياة ستتغير وتتلاشى بعيدا في نهاية المطاف. البشر عاجزون في مواجهة قوى الطبيعة الأعظم منهم. الاعتراف بالزوال واحد من المفاهيم الأساسية في الثقافة اليابانية. بينما نحن نحترم حقيقة أن كل الأشياء زائلة ونفهم أننا نعيش في عالم هش وغير مستقر, وفي الوقت نفسه نحن متشبعون  بإرادة صامتة للعيش وبعقول إيجابية.
          أنا فخور أن أعمالي تجد تقديرا هائلا من الشعب الكاتالوني, وأنهم منحوني مثل هذه الجائزة المرموقة. تفصلنا مسافات بعيدة عن بعضنا ونتحدث بلغات مختلفة. لدينا ثقافات مختلفة. ولكن في الوقت نفسه نحن مواطنون في هذا العالم, ونتقاسم نفس المشكلات ونفس الفرح والحزن. لهذا السبب نترجم القصص التي كتبها كاتب ياباني إلى اللغة الكاتالونية ويحتضنها الشعب الكاتالوني. إنني سعيد لمشاركة نفس القصص معكم. الحلم هو عمل الروائيين, لكن تشارك الأحلام هي مهمة لا تزال أكثر أهمية بالنسبة لنا. لا يمكننا أن نكون روائيين دون هذا الإحساس بضرورة تشارك شيء ما مع الاخرين
          أعرف أن الشعب الكاتالوني تغلب على العديد من المصاعب, بينما هو يعيش الحياة على أكمل وجه وبقي على ثقافة ثرية عبر التاريخ الخاص بكم. أعتقد أن لدينا أشياء كثيرة لتشاركها .
          كم هو رائع لو كان بمقدرونا نحن في اليابان و كاتالونيا أن نبني منزلا للحالمين غير الواقعيين ونقيم "مجتمعا روحيا" الذي من شأنه أن يتجاوز كلا من البلد والثقافة. أعتقد أن هذا سيكون نقطة انطلاق لنهضتنا, ونحن قد شهدنا على حد سواء العديد من الكوارث الطبيعية وأعمال الإرهاب الوحشية في الآونة الأخيرة. يجب علينا ألا نخاف من أن نحلم. يجب ألا نسمح لكلاب مجنونة تسمى "الكفاءة" و"الراحة" أن تلحق بركبنا. يجب أن نكون "حالمين غير واقعيين", يخطون بقوة. سيضمحل الوجود البشري ويختفي, ولكن الإنسانية ستسود وسيتم مجددا الاستمرار. قبل كل شيء, يجب علينا أن نؤمن بهذه القوة.

          في الختام, سأتبرع بقيمة هذه الجائزة لضحايا الزلزال والحادث الذي وقع في محطة الطاقة النووية. إنني ممتن جدا للشعب الكاتالوني ولمحافظ كاتالونيا الذين قدموا لي هذه الجائزة وهذه الفرصة. أود أيضا أن أعرب عن عميق مواساتي لضحايا الزلزال الذي حدث مؤخرا في "لوركا". 

السبت، 10 سبتمبر 2016

اللحظة التي أدركت فيها أنني سأكون روائيا.. هاروكي موراكامي

اللحظة التي أدركت فيها أنني سأكون روائيا
هاروكي موراكامي
ترجمة: عبدالله الزماي
         
يتخرج معظم الناس-وأقصد بمعظم الناس هنا نحن الذين نشكل جزءاً من المجتمع الياباني-من المدرسة ثم يحصلون على عمل, ثم بعد مرور بعض الوقت يتزوجون،حتى أنا في الأصل كنت أنوي إتباع  هذا النمط،أو على الأقل هذا ما تصورت أن تؤول الأمور إليه،لكنني في الواقع تزوجت أولا ثم بدأت العمل,ثم –بطريقة ما-تمكنت أخيرا من التخرج،وبعبارة أخرى, فإن النظام الذي اتبعته كان على العكس تماما من النمط الطبيعي المتبع .
ولأنني كنت أكره  فكرة العمل في شركة, قررت أن أنشئ مؤسسة خاصة بي,وهي عبارة عن مكان يمكن أن يقصده الناس للاستماع لتسجيلات موسيقى الجاز واحتساء القهوة وتناول الوجبات الخفيفة والمشروبات،لقد كانت فكرة بسيطة أكثر من كونها من نوعية المشروعات التي تعتمد على الحظ،وقد ظننت أن إدارة عمل تجاري مثل  هذا سيمنحني الفرصة للاسترخاء والاستماع إلى الموسيقى المفضلة عندي من الصباح حتى المساء،كانت المشكلة تكمن في أنه - منذ أن تزوجنا أنا و زوجتي ونحن كنا  لا نزال في الجامعة - لم يكن لدينا المال، و لذلك عملت أنا وزوجتي كالعبيد على مدى السنوات الثلاث الأولى وغالبا شغلنا عدة وظائف في وقت واحد لندخر أكبر قدر ممكن من المال، و بعد ذلك قمت بجولات للاقتراض من كل من تمكنت الوصول إليه من الأصدقاء والعائلة ، ثم أخذنا كل المال الذي تمكننا من جمعه وافتتحنا مقهى صغيرا أو بارا في "كوكوبونجي",مكان ليتسكع فيه الطلبة ويمضون أوقاتهم, في الضواحي الغربية لطوكيو وكان ذلك عام 1974.
وقد كان افتتاح متجر خاص بك في ذلك الوقت أقل تكلفة بكثير مما هو الآن،فقد دشن الكثير من الشباب مثلنا–من الذين عقدوا العزم على تجنب حياة الشركات بأي ثمن- المتاجر الصغيرة  يمينا ويسارا، فالمقاهي والمطاعم والمكتبات والمتاجر المتنوعة –عدد ولا حرج،  وكان هناك العديد من الأماكن المنتشرة بالقرب منا يملكها ويديرها أشخاص من جيلنا،احتفظت "كوكوبونجي" بمشاعر ثقافية مضادة قوية,وكثير من أولئك الذين يتسكعون في جميع أنحاء المنطقة كانوا من المتسربين من الحركة الطلابية المتقلصة،كان ذلك في زمن حيث لا يزال المرء حينها في جميع أنحاء العالم  يجد ثغرات في النظام.
أحضرت البيانو القديم من منزل والدي وبدأت بتقديم عروض عزف الموسيقى الحية في عطلات نهاية الأسبوع،كان ثمة العديد من عازفي الجاز الشباب الذين يعيشون في منطقة "كوكوبونجي" والذين كان يسرهم العزف (على ما أظن) في مقابل المبلغ البسيط  الذي ندفعه لهم،وقد أصبح الكثير منهم موسيقيين مشهورين بعد ذلك،وأحيانا أصادفهم في نوادي الجاز في طوكيو من حين لأخر.
على الرغم من أننا كنا نقوم بعمل نحبه,فإن سداد ديوننا كان نضالا مستمرا,فقد كنا مدينين للبنك وللأشخاص الذين  قدموا لنا الدعم والمساندة،وفي إحدى المرات كنا عاجزين عن دفع القسط الشهري المستحق علينا للبنك,وكنت أسير مع زوجتي جنبا إلى جنب مطأطئين رؤوسنا في وقت متأخر من الليل وحينها عثرنا على نقود ملقاة في الشارع،سواء كان ذلك تزامنا أو نوع من التدخل الإلهي,لا أعرف،لكن المبلغ كان بالضبط ما نحتاج إليه،وبما أن استحقاق الدفع كان في اليوم التالي,فقد كان حقا في اللحظة الأخيرة كما لو كان  بمثابة إيقاف تنفيذ لحكم بالإعدام،(ولقد حدثت أحداث غريبة مثل هذا الحدث في مراحل مختلفة من حياتي)، ربما كان معظم اليابانيون في مثل هذا الموقف ليقومون بالشيء الصحيح,ويعمدوا إلى تسليم المال إلى الشرطة, لكن بالنظر إلى الظرف الذي كنا فيه لم نتمكن من التحلي بمثل هذه المشاعر النبيلة.
ومع ذلك كان لا يزال الأمر ممتعا بلا شك،فقد كنت فتيا وفي قمة عطائي و يمكنني الاستماع إلى موسيقاي المفضلة طوال اليوم,وكنت سيد عالمي الخاص الصغير،لم أكن مضطرا للشعور بالاعتصار في القطارات المزدحمة بالركاب أو حضور الاجتماعات المرهقة للذهن أو تملق رئيسي في العمل الذي لا أحبه،فبدلا من ذلك أتيحت لي الفرصة لمقابلة كافة أنواع الناس الممتعين.
هكذا قضيت فترة العشرينات من عمري في سداد القروض, والقيام بالعمل البدني الشاق (صنع السندوتشات والمشروبات ودفع الزبائن سليطي اللسان خارج المكان) من الصباح حتى المساء،بعد بضع سنوات قرر مالك المبنى في "كوكوبونجي" أن يقوم ببعض التجديدات,لذلك انتقلنا إلى أكثر الأماكن رحبا وحداثة بالقرب من وسط طوكيو في "سانداغايا"،وقد هيأ لنا موقعنا الجديد مساحة كافية لوضع بيانو كبير,لكن نتيجة لذلك تزايدت ديوننا و لهذا لم تكن الأمور سهلة بأي حال.
وعندما أعود بذاكرتي إلى الخلف فإن جل ما أتذكره هو مدى صعوبة عملنا آنذاك،  أتصور أن معظم الناس كانوا ينعمون بالاسترخاء نسبيا خلال فترة العشرينات من أعمارهم,بيد أنه لم يكن لدينا تقريبا متسع من الوقت للاستمتاع "بأيام الشباب الخالية من الهم".وبالكاد كنا نحصل على وقت الفراغ الذي كنت أقضيه في القراءة,فبالإضافة إلى الموسيقى،كانت الكتب  هي شغفي الأكبر,مهما كنت مشغولا أو مفلسا أو مرهقا,لم يكن لأحد أن يحرمني من تلك المتع.
مع اقتراب نهاية العشرينات من عمري, كان مقهى الجاز الخاص بنا في "سانداغايا" قد بدأ أخيرا يبدي علامات الاستقرار،صحيح أننا لم نتمكن من الراحة والاسترخاء وكان لا يزال لدينا بعض الديون وكانت مبيعاتنا تترنح بين صعود وهبوط،لكن على الأقل كانت الأمور قد بدأت تسير في الاتجاه الصحيح.
ذات ظهيرة يوم مشمس من شهر إبريل عام 1978م,حضرت مباراة "بيسبول" في إستاد "جينجو",والذي لم يكن بعيدا عن مقر إقامتي وعملي،كانت المباراة الافتتاحية لموسم الدوري المحلي,بدأت المباراة في الساعة الواحدة بين فريقي "ياكولت سوالوز" و "هيروشيما كارب"،وقد كنت بالفعل في تلك الأيام من مشجعي فريق "سوالوز"، لذا فقد كنت أحيانا أقوم بزيارة خاطفة لمتابعة المباريات،باعتبارها بديلا للذهاب في تمشية.
في ذلك الوقت كان "سوالوز" فريقا ضعيفا بشكل دائم (قد يتبادر ذلك إلى ذهنك بمجرد سماع اسمه)في ظل وجود لاعبين ذوي قيمة مالية  قليلة يفتقرون إلى الشهرة و الأسماء الرنانة، وبطبيعة الحال لم تكن للفريق شعبية كبيرة، وربما كانت  هذه هي المباراة الافتتاحية في الموسم لكن كان هناك عدد قليل من المشجعين يجلسون خلف سور ملعب البيسبول،أنا جلست متمددا أحتسي البيرة لمتابعة المباراة،وفي ذلك الوقت لم يكن ثمة مقاعد مدرجات في الإستاد،بل كان مجرد منحدرعشبي،كانت زرقة السماء زاهية,كانت البيرة باردة بالقدر المطلوب,وكانت الكرة شديدة البياض بالتناقض مع أرض المستطيل الأخضر,هذا اللون الأخضر الذي أراه للمرة الأولى منذ فترة طويلة،كان ضارب الكرة الأول لفريق "سوالوز"هو"ديف هيلتون" الوافد الجديد النحيل غير المعروف تماما القادم من الولايات المتحدة،والذي قام بضرب الكرة من موقع متقدم,كان الضارب رقم أربعة هو" تشارلي مانويل"،الذي اشتهر بعد ذلك كمدير لـفريق "كليفلاند إنديانز" وفريق " فيلادلفيا فيليز"، ولما كان لاعبا قوي البنية ذو ضربات قوية,أطلق عليه المشجعون اليابانيون لقب "الشيطان الأحمر".
أعتقد أن ضارب البداية لـفريق "هيروشيما" في ذلك اليوم كان "ياشيرو سوتوكوبا"،في حين جاء رد فريق "ياكولت سوالوز"على يد اللاعب  "تاكيشي ياسودا"،في الجزء الأخير من الشوط الأول, تمكن "هيلتون" من ضرب الرمية الأولى للاعب "سوتوكوبا" إلى يسار الملعب للحصول على نقطتين نظيفتين،وقد دوى صوت اصطدام الكرة بالمضرب في كافة أرجاء إستاد "جينجو"،وهنا ارتفع التصفيق المتقطع من حولي،في تلك اللحظة وبدون سبب ولا على أي أساس كان خطرت لي الفكرة فجأة:أعتقد أنني أستطيع تأليف رواية.
لازلت أتذكر هذا الشعور تحديدا،شعرت كما لو أن شيئا قد نزل يرفرف من السماء وقبضت عليه بيدي بشدة،لم يكن لدي أدنى فكرة عن سبب مصادفته السقوط في متناول يدي،لم أعرف السبب حينها,ولازلت لا أعرفه حتى الآن,أيا كان السبب،ذلك هو ما حدث،لقد كان مثل الوحي أو ربما " لحظة تجلي" هي الكلمة الأقرب،كل ما يمكنني قوله هو أن حياتي  تغيرت جذريا وبشكل دائم في تلك اللحظة,حينما سدد "ديف هيلتون" تلك الضربة الجميلة الدائرية المزدوجة في استاد "جينجو".
بعد المباراة (التي فاز فيها فريق ياكولت على ما أتذكر),استقليت القطار المتجه إلى "شينجوكو"،واشتريت رزمة من ورق الكتابة وقلم حبر,لم تكن برامج معالجة الكلمات وأجهزة الحاسب الآلي متوفرة حينها,الأمر الذي كان يعني أنه كان يتعين علينا كتابة كل شيء باليد, حرف واحد في كل مرة،كان الإحساس بالكتابة شعور جديد كليا بالنسبة لي،أتذكر كيف كنت أكتب بسعادة غامرة،لقد مر وقت طويل منذ أن خططت بقلم الحبر على الورق.
كل ليلة بعد ذلك,حينما كنت أعود متأخرا من العمل,كنت أجلس على طاولة المطبخ و استغرق في الكتابة،كانت تلك الساعات القليلة التي تسبق الفجر عمليا هي وقت فراغي الوحيد، وعلى مدى الستة أشهر التالية أو نحو ذلك كنت قد كتبت " أسمع الريح تغني"،وكنت قد أنهيت المسودة الأولى مع نهاية موسم البيسبول,وبالمناسبة في تلك السنة خالف فريق "ياكولت سوالوز" احتمالات وتوقعات الجميع تقريبا بالفوز بلقب الدوري المحلي,ثم توجه إلى هزيمة  أصحاب لقب دوري أبطال المحيط الهادي - فريق "هانكيو بريفز" - في الدوري الياباني،لقد كان هذا الموسم بحق معجزة خفقت لها قلوب مشجعي  فريق "ياكولت سوالوز".
كانت رواية "أسمع الريح تغني" عملا قصيرا,أقرب إلى "النوفيلا"منه إلى الرواية، رغم أنها استغرقت مني عدة أشهر وبذلت الكثير من الجهد للانتهاء منها،ويعود ذلك في جزء منه بالطبع إلى محدودية الوقت الذي كنت أقضيه في الكتابة,ولكن  الجزء الأكبر من المشكلة الأكبر كان يكمن في انه لم يكن لدي أدنى فكرة عن كيفية كتابة الرواية،وإحقاقا للحق فبالرغم من أنني كنت اقرأ جميع أنواع الكتب,كان النوع المفضل لدي هو روايات القرن التاسع عشر الروسية والأمريكية و القصص البوليسية المحبوكة,ولم أكن قد اطلعت جيدا على الأدب الياباني المعاصر،لذلك لم يكن لدي أدنى فكرة عن نوعية الروايات اليابانية التي تقرأ في ذلك الوقت,أو كيفية كتابة الرواية باللغة اليابانية.
وقد اعتمدت لعدة أشهر على التخمين الخالص,متبنيا ما بدا لي أسلوبا وقمت بمسايرته، حينما قرأت النتيجة التي تمخض عنها,بيد أني كنت ابعد ما يكون عن الإعجاب بها،بدا لي أنها كانت تلبي المتطلبات الرسمية للرواية,ولكنها كانت مملة بعض الشيء,حيث تركني الكتاب ككل مفعما بحس من البرود،وهنا فكرت أنه إذا كانت هذه هي الطريقة التي يشعر بها المؤلف,فإن ردة فعل القارئ سوف تكون على الأرجح أكثر سلبا،وهنا اعتراني شعور بالاكتئاب وبدا لي ببساطة أنني لا امتلك ما يحتاجه الأمر من مهارة،وفي الأحوال العادية كان المطاف لينتهي بي هناك وكنت سأترك هذا الأمر إلى الأبد،ولكن لحظة التجلي التي حدثت في إستاد جينجو كانت لا تزال محفورة في ذهني بوضوح .
وبالرجوع إلى أحداث الماضي أجد انه كانت عدم قدرتي على إنتاج رواية جيدة أمرا طبيعيا، لقد كان خطأ كبيرا أن افترض أن رجلا مثلي لم يكتب أي شيء طوال حياته يستطيع أن يخرج من جعبته فجأة عملا رائعا متكاملا،لقد كنت بذلك أحاول تحقيق المستحيل،وهنا قلت لنفسي انه علي أن أكف عن محاولة كتابة عمل معقد،وان أتخلى عن كافة الأفكار التوجيهية حول"الرواية"و"الأدب"وأقوم فقط بسكب أفكاري ومشاعري كما تداعت إلي،بحرية،بالطريقة التي أريدها.
وبقدر ما كان الحديث عن سكب الفرد أفكاره ومشاعره بحرية أمرا سهلا،لم يكن التطبيق بهذا القدر من اليسر،فقد كان الأمر صعبا وخاصة لمبتدئ مثلي،وانطلاقا من بداية جديدة  كان أول شيء يتعين علي فعله هو التخلص من أكوام الورق وقلمي الحبر، فطالما كانوا قابعين أمامي, سيبدو لي كل ما أفعله " أدبا"،وهنا استبدلتهم بسحب آلة الكتابة القديمة خاصتي من نوع "أوليفيتي" من الخزانة،ثم قررت على سبيل التجربة كتابة افتتاحية لروايتي باللغة الإنجليزية،وفكرت بما أنني كنت على استعداد لتجربة أي شيء،فلم لا أجرب ذلك؟
لست بحاجة لأن أذكر أن قدرتي على التعبير باللغة الإنجليزية لم تكن كبيرة،كانت مفرداتي محدودة للغاية,كما كان شأني مع بناء الجملة الإنجليزية،لم أتمكن سوى من كتابة جمل قصيرة بسيطة،الأمر الذي يعني أنه بغض النظر عما كان يجول برأسي من أفكار عديدة ومعقدة لم أكن استطيع التعبير عنها كما كانت تتداعى إلي،لم أتمكن من استخدام سوى لغة بسيطة، والتعبير عن أفكاري بعبارات سهلة الفهم,وجاءت أوصافي مجردة من الحشو العرضي غير الجوهري،فكنت الصيغة وجيزة،وكان كل شيء مرتب ليتناسب مع إطار محدود الحجم،وهنا جاءت النتيجة كنوع من النثر الفظ الخالي من الجمال،وباستمرار كفاحي للتعبير عن نفسي بتلك الطريقة  بدأ أسلوبي يحظى بإيقاع مميز خطوة بخطوة .
ونظرا لأنني ولدت ونشأت في اليابان,فقد كانت مفردات وتعبيرات اللغة اليابانية تختلج بنظامي الداخلي,مثل حظيرة مكتظة بالماشية،وحينما سعيت لوضع أفكاري ومشاعري في كلمات بدأت تلك الحيوانات تتدافع محطمة النظام ذاته،وهنا تمكنت الكتابة بلغة أجنبية بكل ما تنطوي عليه من قيود من إزالة هذه العقبة،كما قادني ذلك أيضا إلى اكتشاف قدرتي على التعبير عن أفكاري ومشاعري بمجموعة محدودة من الكلمات والتراكيب النحوية,طالما قمت بجمعها ونظمها معا بشكل فعال وبطريقة ماهرة،وخلاصة القول لقد تعلمت أنه ليس هناك حاجة لاستخدام الكثير من الكلمات الصعبة,وأنني لست مضطرا  لمحاولة إثارة إعجاب الناس بعبارات رنانة .
بعد ذلك بفترة طويلة،اكتشفت أن الكاتبة أغوتا كريستوف قد قامت بكتابة عدد من الروايات الجميلة بأسلوب كان له تأثير مماثل للغاية،وقد كانت أغوتا كريستوف روائية مجرية هربت إلى"نيوشاتيل" في سويسرا في عام 1956م أثناء الاضطرابات المعتملة ببلدها الأم ، حيث تعلمت – أو في الحقيقة أجبرت على تعلم - اللغة الفرنسية،ومن ثم فقد نجحت من خلال الكتابة بهذه اللغة الأجنبية في تطوير النمط الجديد الفريد المنسوب إليها،حيث تمكنت من صنع إيقاع قوي قائم على جمل قصيرة,أسلوب لا يعمد إلى الالتواء بل ينطلق صريحا واضحا دائما, مفعما بالوصف الصائب الخالي من الحمولات العاطفية،وقد كانت رواياتها تكتسي بجو من الغموض الذي يرجح وجود أمور هامة تختفي تحت السطح،وهنا أتذكر شعوري بالحنين بطريقة أو بأخرى حينما قرأت أعمالها للمرة الأولى،وعلى سبيل المصادفة صدرت روايتها الأولى "الدفتر الكبير"عام 1986م, بعد سبع سنوات فقط من صدور رواياتي " أسمع الريح تغني".
بعد أن اكتشفت التأثير الغريب للتأليف بلغة أجنبية,والذي اكتسبت بموجبه إيقاع إبداعي مميز خاص بي,أعدت آلتي الكاتبة "أوليفيتي" إلى الخزانة،وسحبت مرة أخرى رزمة الورق وقلمي الحبر،ثم جلست وترجمت الفصل أو ما شابه الذي قد سبق و كتبته بالإنجليزية إلى اللغة اليابانية،حسنا,ربما يكون تعبير"حاكيت" أكثر دقة,حيث لم يكن الأمر ترجمة حرفية مباشرة،و في إطار هذه العملية حتما ظهر أسلوب جديد باللغة اليابانية،ذلك الأسلوب الذي ينسب إلي، الأسلوب الذي اكتشفته بنفسي،وهنا فكرت أنني قد تبينت الأمر،هذه هي الطريقة التي يجب علي إتباعها،كانت تلك لحظة من الوضوح الخالص،سقطت فيها الغشاوة عن عيني.
قال لي بعض الناس:"يحمل عملك طابع الترجمة"،والمعنى الدقيق لهذا العبارة لا ينطبق علي،ولكنني اعتقد أنها تصيب الحقيقة من جانب وتخطئها تماما في الجانب الأخر،فهذا التعليق لا يشوبه الخطأ كليا بالنظر إلى حقيقة أن الفقرات الافتتاحية لأولى رواياتي القصيرة  كانت بالمعنى الحرفي"مترجمة"،ولكن ذلك لا ينطبق سوى على عملية الكتابة فحسب،فما كنت أسعى إليه عبر الكتابة باللغة الإنجليزية أولا ومن ثم الترجمة إلى اللغة اليابانية كان بدافع خلق أسلوب بسيط محايد يسمح لي بقدر أكبر من الحرية،فلم يكن اهتمامي منصبا على خلق صيغة مخففة من اللغة اليابانية،بل كنت أرغب في نشر نوعا من اللغة اليابانية بعيدا بقدر الإمكان عما يسمى اللغة الأدبية من أجل أن أعبر بالكتابة بصوتي الطبيعي،وقد تطلب هذا إجراءات يائسة،وقد أذهب بعيدا إلى حد القول أنني في ذلك الوقت ربما نظرت إلى اليابانية بأنها ليست أكثر من مجرد أداة وظيفية.
وقد أعتبر بعض النقاد ذلك إهانة تهدد لغتنا القومية،تلك اللغة الصعبة للغاية,وإن كان تماسكها يدعمه تاريخ طويل،تلك اللغة التي لا يمكن أن تضيع أو تتضرر استقلاليتها بشكل جاد مهما تم تناولها ومعالجتها,حتى لو كان هذا العلاج قاسيا إلى حد ما،إنه حق أصيل لجميع الكتاب أن يختبروا إمكانيات اللغة بكل طريقة يمكنهم تخيلها،فلولا روح المغامرة لما ولد أي جديد، يختلف أسلوبي في اللغة اليابانية عن أسلوب "تانيزاكي"،كما يختلف مع أسلوب "كواباتا"،وهذا هو الطبيعي، ففي النهاية أنا شخص أخر،كاتب مستقل اسمه "هاروكي موراكامي".
كان صباح يوم الأحد،في أحد أيام فصل الربيع المشمسة حينما تلقيت مكالمة هاتفية من محرر بمجلة "غونزو"الأدبية، يخبرني أن رواية"أسمع الريح تغني"صارت على قوائم المرشحين لجائزة الكتاب المبتدئين،كان قد مر ما يقارب العام على افتتاحية الموسم في إستاد "جينجو" وكنت قد بلغت الثلاثين من عمري، كان ذلك في حوالي الحادية عشرة صباحا,لكنني كنت ما أزال مستغرقا بنومي,بعد أن عملت إلى وقت متأخر جدا من الليل في الليلة السابقة، التقطت سماعة الهاتف بشكل مهزوز,ولم يكن لدي أدنى فكرة في البداية عمن كان على الطرف الآخر,أو ما الذي كان يود إخباري،وحقيقة لقد كنت قد نسيت تماما في ذلك الوقت أنني قد أرسلت رواية "أسمع الريح تغني" إلى مجلة "غونزو"،فبمجرد أن انتهيت من كتابة النص ووضعته في يد شخص آخر،سكنت رغبتي في الكتابة تماما،فقد كان تأليف تلك الرواية– إن جاز التعبير- ضرب من التحدي،فقد كتبتها بكل سهولة و يسر,تماما كما تداعت إلي,لذا  لم تخطر لي أبدا فكرة أنها قد تكون على قائمة المرشحين لأي جائزة،في الحقيقة كنت قد أرسلت لهم النسخة الوحيدة من الرواية،فلو لم يقع اختيارهم عليها لربما كانت تلك الرواية قد ضاعت إلى الأبد،(حيث أن مجلة غونزو لا تعيد النصوص المرفوضة إلى أصحابها)،وربما لم أكن على الأرجح لأكتب أي رواية أخرى،ما أغرب هذه الحياة !
قال لي المحرر أن ثمة خمسة متنافسين على المركز النهائي،كنت أنا أحدهم،لا أنكر شعوري بالمفاجأة لكنني كنت أيضا أشعر بالنعاس الشديد,ومن ثم لم استوعب جيدا حقيقة ما حدث،فنهضت من الفراش واغتسلت وارتديت ملابسي وذهبت للتنزه مع زوجتي،بمجرد أن تجاوزنا مدرسة الحي الابتدائية,لاحظت وجود أحد الحمامات الزاجلة مختبئة في الشجيرات، حينما التقطتها رأيت أنها تبدو مكسورة الجناح،وقد تم وضع علامة معدنية على ساقها،فحملتها برفق في يدي وتوجهت بها إلى أقرب مركز شرطة في "أوياما-أوموتيساندو"،وبينما كنت أسير هناك على طول الشوارع الجانبية في "هاراجوكو"،ذاب دفء الحمامة المجروحة في يدي،و شعرت بها ترتجف،في ذلك الأحد الذي كان مشرقا وصافيا  تتألق فيه الأشجار والمباني وواجهات المتاجر جمالا في ضوء شمس الربيع.
عندها صدمتني الفكرة،أنا على وشك الفوز بالجائزة،وأنا أمضي في طريقي لأصبح روائيا يحظى بقدر من النجاح،كان ذلك افتراضا جريئا,لكنني كنت على يقين في تلك اللحظة أن هذا ما سيحدث،على يقين تام،ليس بطريقة نظرية ولكن بشكل مباشر وبديهي.
قمت بكتابة رواية "الكرة والدبابيس، 1973" في العام التالي كتكملة لرواية "أسمع الريح تغني"،وكنت ما زلت أدير مقهى موسيقى الجاز,مما يعني أن رواية " الكرة والدبابيس، 1973"قد كتبت أيضا في وقت متأخر من الليل على طاولة المطبخ،ولذلك فإنني بالحب  المختلط بقليل من الحرج أطلقت على هذين العملين "روايات طاولة المطبخ"،وبعد وقت قصير من انتهائي من كتابة رواية " الكرة والدبابيس،1973" قررت أن أصبح كاتبا متفرغا،فقمنا ببيع  المقهى،وبدأت على الفور العمل على أولى رواياتي الطويلة "مطاردة الخراف البرية",والتي أعتبرها البداية الحقيقية لمسيرتي كروائي.
ومع ذلك لعب هذان العملان القصيران دورا هاما فيما حققته من نجاح،فلا يمكنني الاستغناء عنهما بالكلية،تماما مثل الأصدقاء القدامى،ممن يبدو على الأرجح أننا لن نجتمع مرة أخرى أبدا, ولكنني لن أنسى صداقتهم أبدا،فقد كان وجودهما ثمينا حاسما في حياتي آنذاك،لقد أثلجا صدري وشجعاني على المضي في دربي.
ما زلت أذكر بوضوح تام شعوري حين استقر ذلك الشيء –أيا كان- الذي هبط يرفرف من السماء في راحة يدي قبل ثلاثين سنة على العشب وراء سياج ملعب البيسبول في إستاد "جينجو"،كما أذكر بنفس الوضوح دفء الحمامة الجريحة التي التقطتها في تلك الأيدي نفسها ذات ظهيرة ربيعية بعد عام من ذلك بالقرب من مدرسة "سانداغايا" الابتدائية،أستدعي تلك الأحاسيس كلما تدبرت معنى أن أكتب راوية،حيث تعلمني ملامسة تلك الذكريات أن أؤمن  بالشيء الذي أحمله بداخلي,وأن أحلم بما يوفره لي من إمكانيات،كم هو رائع أن أحتفظ بتلك الذكريات في داخلي  حتى اليوم.


الأحد، 14 أغسطس 2016

كيف تغلبت على خوفي من الطيران...ماريو بارغاس يوسا

كيف تغلبت على خوفي من الطيران
ماريو بارغاس يوسا
ترجمة: عبدالله الزماي

          ثمة بعض السذج الذين يظنون أن الخوف من الطيران هو –أو يمكن تفسيره- بالخوف من الموت. إنهم مخطئون, الخوف من الطيران هو خوف من الطيران فحسب, ليس من الموت, الخوف بالشكل الخاص والدقيق كما الخوف من العناكب أو الفراغ أو القطط, ثلاثة أمثلة منتشرة  والتي تشكل غطاء واقيا لمخاوف البشرية. الخوف من الطيران يحدث فجأة, عندما يدرك  الأشخاص الغير مفتقرين  الخيال والحساسية أنهم على ارتفاع 30 الف قدم  في الجو , مسافرون عبر السحب بسرعة ثمانمائة ميل في الساعة, ويتساءلون "ماذا أفعل هنا بحق الجحيم؟", ويبدءون بالرعشة.
          هذا ما حدث معي, بعد سنوات عديدة من ركوب ونزول الطائرة بقدر ما اعتدت تبديل قمصاني.واصلت امتطاء هذه الصواريخ المحمولة جوا, لكن لفترة طويلة, كانت دلاء من العرق تتصبب مني في كل رحلة, خصوصا حينما نواجه مطبات جوية  صديقتي الأكثر بهجة المضيفة الجوية "ساسو" التي تشعر أكثر أمانا فوق الغيم منها على اليابسة, والتي كانت تقهقه ساخرة من حالة الذعر التي انتابتني في الجو, حاولت أن تعالجني بمعاونتي بالإحصاءات. أثبتت لي ما يعرفه كل شخص. أن السفر بالطائرة أكثر أمانا بكثير من السفر بالسيارة أو القارب أو القطار أو حتى الدراجة أو حتى على الزلاجة  لأنه في كل عام كثير من الأشخاص تحصل لهم حوادث باستخدام تلك الأشكال من النقل أكثر. حتى المشي سيرا على الأقدام في نزهة لطيفة وغير ضارة أكثر خطورة من الناحية الإحصائية من الذهاب بالطائرة. لكن في حالتي الإحصاءات لوحدها لم تكن قادرة على إثارة عواطفي وتبديد مخاوفي, لذا على الرغم من كوني  مقتنعا بشكل عقلاني بالأرقام التي حرثت من خلال السماء داخل الطائرة أكثر أمانا من غرفتي, تواصل وقتي العصيب في كل رحلة.
          رافقني صديقي الروائي الاوروغواياني الراحل "كارلوس مارتينيز مورينيو" ذات مرة في الطائرة, قضى الرحلة كلها ممسكا بنسخة بالية ورثة من كثرة المداولة من رواية "مدام بوفاري", والتي لم يقرأها, لكنه داعبها  باستمرار. كانت التميمة التي ضمنت له رحلة سليمة وآمنة. قال أنه أخذ هذا الكتاب في أول رحلة له ثم أتخذه لاحقا رفيقا في جميع الرحلات الأخرى, لأن الحدس والخيال والجنون أخبروه أن هذا الطلسم الروائي و ليس دوران المحركات السلس  ولا مهارة الطيارين هي التي تحافظ على الطائرات التي يستقلها في السفر سالمة من أية مكروه أو حادث. لكن علاج "مارتينيز مورينو" لم يجد بالنسبة لي, بسبب شكوكي القوية بأي شكل من أشكال السحر (خصوصا الحديثة), أو ببساطة لأنها لم تأت بعد التعويذة التي تدفعني وترغمني على الإيمان بالسحر.
          صديقتي البورتوريكوية أرملة ثرية تسافر حول العالم, كشفت لي أنها قد شفيت من خوفها من الطيران بواسطة "الويسكي", دائما ما تأخذ إمدادات جيدة معها على متن الطائرة, مخبأة في حقيبة صغيرة, وبرشفتين أو ثلاث, يمكن أن تشقلب السفينة أو تلقي بها الرياح بينما هي ضاحكة وسعيدة, منيعة  لكل شيء. حاولت أن أطبق طريقتها لكنها لم تكن مجدية بالنسبة لي. أنا أعاني من الحساسية تجاه "الكحول" جريعات  الويسكي, لن تقوى على  إزالة مخاوفي من الطيران, بل ستزيده و تصيبيني بالصداع و الغثيان و الرجفان  . ربما كنت بحاجة إلى أن أكون عربيدا, أرى الرجال صغارا خضرا , لأكون لامباليا من الطيران الذي تمكنت منه صديقتي البورتوريكوية برشفات قليلة من "الكحول". ربما يكون الدواء أكبر ضررا من الداء.
          على النقيض من صديقتي البورتوريكوية, يزعم بعض المتشددين أن الخوف من الطيران هو نتيجة لوجبات الطعام الثقيلة والتناول المفرط للمشروبات الروحية "النبيذ والكحول" على متن الرحلة. و لاجل راحتي النفسية  في الجو, أوصوني بالامتناع عن تناول الطعام وشرب الخمر في الرحلات الجوية, وانما مجرد شرب كؤوسا كبيرة من الماء  , و التي هي بالنسبة لهم تعتبر مسكنة . إلا أن ذلك لم يجد معي أيضا. بل على العكس, إرغامي لنفسي على تناول هذه الوجبات جعلني بائسا جدا,وأضاف لمخاوفي عذاب الجوع و الذهاب الى الحمام  .
          "سيكونال " و"زاناكس" وكل تلك الحبوب الأخرى التي اخترعت لعلاج الارق ,أي منها لم يجد بالنسبة لي. ثمة أشخاص رائعون (استحقوا إعجابي وغبطتي) الذين يتخدرون على الفور على متن الطائرة والذين ينامون بشكل طبيعي طوال الرحلة كلها, يركنون بواسطة أزيز المحركات. وغيرهم ممن, لأجل الوصول إلى تلك الحالة  نفسها, يحشون بطونهم بالحبوب  التي تذهلهم وتخدرهم. لكن الحبوب المنومة سببت لي  الخفقان أو الكوابيس الأكثر ترويعا التي رأيت فيها نفسي و قد تعرقت من الخوف داخل الطائرة.لذا النوم الاصطناعي النسبي الناجم عن الأدوية, لم يزل خوفي, لكن بدلا من ذلك استبدله بطائرة في اللاوعي و الحلم , وكما كان له أثر جانبي آخر,ادخلني في حالة من اللاحياة المتلبسة بالاكتئاب في نهاية الرحلة.
          جاء الحل بطريقة غير متوقعة, في رحلة بين "بيونس آيرس" و"مدريد" والتي ذكرتني بالصدفة بأول رحلة لي بين هاتين المدينتين (بواسطة خطوط الطيران الآيبيرية, دوغلاس DC4) في الثاني والعشرين من سبتمبر لعام 1946م. اشتريت من مطار "إيزيزا" رواية قصيرة لأليخو كاربنتييه التي لم أكن قد قرأتها "مملكة هذا العالم". لاشيء, أعدني للمفاجأة . من الأسطر الأولى للرواية, التي تعيد خلق  حياة الهلوسة التي يعيشها  "هنري كريستوف" وبناء القلعة الشهيرة في "هاييتي", كان هذا مكتوبا بطريقة رائعة وحتى الرواية قد بنيت  بشكل رائع كما هو الحال في جميع الروائع الأدبية, لا شيء يمكن أن يضاف أو يحذف, امتصتني جسدا وروحا واقتادتني بعيدا عما يحيط بي ونقلتني لعشر ساعات أو نحو ذلك هي مدة  الرحلة, بعيدا عن الليل المتجمد ذو النجوم المتلألئة  إلى  ملحمة مذهلة عن "هاييتي" في القرن الماضي, حيث العنف الأكثر شراسة يتداخل مع الخيال الأكثر حميمية, حيث المعجزات والأساطير وصمت الحياة اليومية و أحداثها التافهه . انتهت السطور الأخيرة عند هبوط الطائرة في "باراخاس", كان الكتاب قد استغرق الرحلة, وأخذني بعيدا عن مخاوفي طوال الرحلة.

          إنه العلاج الذي منذ ذلك الوقت لم يخيبني  أبدا, طالما اخترت لكل رحلة التحفة التي تستغرق كل المدة التي أواجه فيه المعنى الحقيقي لقانون الجاذبية حتى نهايته . لم يكن اختيار العمل المناسب سهلا بطبيعة الحال, من حيث الجودة والحجم لكل رحلة.لكنني مع الممارسة طورت نوعا من الغريزة في اختيار الرواية أو القصة الصحيحة (الشعر أو المسرحيات أو المقالات لم تكن غنية وقوية ضد مخاوفي من الطيران). اكتشفت أيضا انه ليس من الضروري أن تكون أعمالا جديدة, يمكن لإعادة القراءة أن تكون فعالة و منعشة بالنحو الذي يقدمه العمل محل الاختيار  في القراءة الثالثة أو الرابعة كما كانت عليه في المرة الأولى. هنا قائمة (كعربون تقدير) لهؤلاء الأصدقاء الموثوقين الذين كانوا كايكاروس اثناء محاولاتي الأخيرة الناجحة  ساعدوني في التغلب  على مخاوفي من الطيران "بارتبلي و"بينيتو سيرينو " لهيرمان ميلفيل. "مطلع برغي" لهنري جيمس و"المطارد" لخوليو كورتاثار و"الدكتور جيكل ومستر هايد" لروبرت لويس ستيفنسون, و"الشيخ والبحر" لهمنجواي, و"القرد" لإسحاق دينيسين, و"بيدرو بارامو" لخوان رولفو, و"الأعمال الكاملة وقصص أخرى" لمونتيروسو, و"وردة لأميلي" و"الدب" لوليام فوكنر, و"أورلاندو" لفيرجيينا وولف. لحسن حظي أن مخزن الصيدلية الأدبية يمتلك احتياطات لا حدود لها من هذه الأدوية, لذلك لا يزال لدي الكثير من رحلات الطيران و"القراءة الجيدة" في القادم من الأيام. 

السبت، 28 مايو 2016

النهايات السعيدة

النهايات السعيدة
مارغريت أتوود

ترجمة: عبدالله الزماي
         



يلتقي جون وماري .
          ماذا حدث بعد ذلك؟
          إذا كنت تود نهاية سعيدة اقرأ (أ)

(أ)
          يقع جون وماري في حب بعضهما ويتزوجان. كلاهما لديه وظيفة مرموقة وذات راتب مجزي ويجدونها محفزة ومشجعة. ابتاعا منزلا ساحرا. ارتفع سعر العقارات. عندما استطاعا تأمين حياة كريمة رزقا بطفلين. نشأ الطفلان بشكل جيد. ماري وجون لديهما محفزات وحياة جنسية مثيرة وأصدقاء جديرون بالاهتمام. يستمتعان بإجازاتهما معا. تقاعدا. وكل منهما لديه هوايات محفزة ومشجعة. توفيا في نهاية المطاف. هذه هي نهاية القصة.

(ب)
          ماري تحب جون لكن جون لا يحبها. هو فقط يستخدمها جسديا للمتعة الأنانية كنوع فاتر من إشباع الذات. يأتي إلى شقتها مرتين في الأسبوع وتعد له العشاء, ستلاحظون أنه يعتقد أنها لا تستحق قيمة العشاء في الخارج, وبعد أن يتناول عشاءه يجامعها وينام, بينما هي تقوم بغسل الأطباق لكي لا يعتقد أنها غير مرتبة, بسبب كل هذه الأطباق المتكدسة من حولها, وتضع أحمر الشفاه الجديد وستبدو جميلة عندما يستيقظ, لكنه حين يستيقظ لا يلاحظها حتى, يلبس جواربه وسرواله القصير وبنطاله وقميصه وربطة عنقه وحذاءه, بعكس الترتيب نفسه. لا يخلع ملابس ماري, هي تخلعها بنفسها, تمثل كما لو أنها متلهفة له كل مرة, ليس لأنها تحب ممارسة الجنس تماما, هي لا تحب ممارسته, ولكن لأنها تريد أن يعتقد جون أنها تحبه لأنهما لو مارسا الجنس بما يكفي سيعتاد عليها, وسيأتي ليطلب يدها, وسيتزوجان, لكن جون يخرج من الباب بصعوبة بقدر ما كانت ليلة جيدة وبعد ثلاث ليال يأتي في السادسة تماما ويفعلون كل شيء مرة أخرى. ساءت حالة ماري. البكاء مضر بالنضارة. الجميع يعرف ذلك, حتى ماري لكنها لا تستطيع التوقف عن البكاء. لاحظ زملاء العمل ذلك. أخبرها أصدقاؤها أن جون جرذ وخنزير وكلب وليس جيدا بما يكفي بالنسبة لها, لكن لا يمكنها تصديق ذلك. فهي تظن أن في داخل "جون" شخص آخر أجمل بكثير. هذا الشخص الآخر سيظهر كما تخرج الفراشة من شرنقتها أو كدمية المهرج من الصندوق المغلق أو كالبذرة من ثمرة الأجاص المجفف, إذا ما تم تشجيع جون السابق بما يكفي. في إحدى الليالي اشتكى جون من الطعام, ولم يكن يشتك من طعامها من قبل.
          جرحت ماري.
          أخبرها أصدقاؤها أنهم قد رأوه  في أحد المطاعم مع امرأة أخرى تدعى "مايج", ما أغضبها في النهاية ليس "مايج" فحسب وإنما كون ذلك حدث في مطعم, فجون لم يأخذ ماري إلى مطعم قط. جمعت ماري كل الحبوب المنومة والأسبرين التي تمكنت من الحصول عليها, ووضعتها في نصف قارورة من الفودكا, يمكنكم أن تروا  أي نوع من النساء هي, حتى أنه ليس "ويسكي". تركت ملاحظة لجون. آملة أنه سيكتشفها ويأخذها إلى المستشفى في الوقت المناسب ويتوب ومن ثم يمكنهما الزواج, ولكن هذا لم يحدث, فتوفيت. جون تزوج مايج واستمر كل شيء بالحدوث كما في (أ).
(ج)
          جون وهو رجل مسن أحب ماري, وماري التي تبلغ اثنين وعشرين عاما فقط تشعر بالأسف له لأنه قلق من تساقط شعره. تعاشره حتى بالرغم من أنها لا تحبه. كانت قد قابلته في العمل. لكنها تحب رجلا آخر يدعى "جيمس", الذي يبلغ أيضا الثانية والعشرين, ولكنه ليس مهيئا للاستقرار بعد.
          جون على العكس من ذلك مستقر في حالة استقرار منذ زمن, هذا ما يزعجه. جون لديه وظيفة محترمة وثابتة. ويزداد تقدما في مجاله, لكن ماري ليست معجبة به, بل بجيمس, الذي يملك دراجة نارية, ومجموعة مذهلة من الأسطوانات لكنه غائب غالبا ممتطيا دراجته كونه حرا. الحرية ليست نفسها بالنسبة للفتيات, لذا في غضون ذلك تقضي ماري أمسيات الخميس مع جون, أيام الخميس هي الأيام الوحيدة التي يمكن لجون أن يفلت بها. جون متزوج من امرأة تدعى "مايج" ولديهم طفلان ومنزل ساحر ابتاعوه قبل أن يرتفع سعر العقار, وهوايات يجدانها محفزة ومشجعة, حين يكون لديهما الوقت لممارستها. أخبر جون ماري عن مدى أهميتها بالنسبة له, لكنه الطبع لا يمكن أن يدع زوجته لأن الالتزام يوجب الوفاء. يذهب في هذا أكثر مما هو ضروري بينما ماري تجده مملا, لكن الرجل المسن يمكن أن يستمر لوقت أطول لذا على كل هي تجد وقتا طيبا إلى حد ما. في يوم ما دخل جيمس بدراجته النارية مع بعض من سفلة الطبقة المترفة في كاليفورنيا ,ذهبا ابعد مما كنت تظنه ممكنا, واعتليا السرير. كل شيء أصبح كالحلم, ولكن باغتهما جون وكان يملك مفتاحا لشقة ماري. وجدهما مسطولين ومتلاصقين. هو بالكاد يصبح غيورا في أية موقف, حتى مع مايج, ولكنه مع ذلك تغلب على اليأس. أخيرا في خريف العمر وفي غضون عامين سيصبح رأسه أصلع كبيضة ولا يستطيع النهوض. قام بشراء مسدس قائلا أنه يحتاجه من اجل هدف تجريبي. هذا هو الجزء الدقيق من الحبكة, لكن يمكن أن يتم التعامل معه لاحقا, فيطلق النار على الاثنين وعلى نفسه. مايج بعد فترة من الحداد, تتزوج رجلا متفهما يدعى "فريد" ويستمر كل شيء كما حدث في (أ) ولكن تحت أسماء مختلفة.   
(د)
          "فريد" و"مايج" ليس لديهما مشاكل. مستمران بشكل جيد للغاية وجيدان في التعامل مع أية صعوبات تذكر قد تواجههما. لكن منزلهما الساحر من شاطئ البحر في يوم ما اقتربت موجة مد هائلة. انخفض سعر العقار, وبقية القصة عن سبب موجة المد الهائلة وكيف هربوا منها. فعلا ذلك, على الرغم من أن الآلاف من الناس قد غرقوا, لكن "فريد" و"مايج" فاضلان وممتنان واستمرا كما في (أ).
(هـ)
          نعم, لكن "فريد" لديه قلب مريض. بقية القصة عن كم كانا لطيفين ومتفاهمين حتى توفي "فريد". ثم كرست "مايج"  نفسها للأعمال الخيرية حتى نهاية (أ). إذا أعجبتك القصة, يمكن أن يكون اسمها "مايج" أو السرطان أو الحظ والخطيئة أو مراقبة الطيور.
(و)
          إذا كنت تعتقد أن كل هذا برجوازي للغاية, اجعل "جون" ثوريا و"ماري" عميلة مكافحة التجسس وانظر إلى أي مدى لذلك تأثير عليك. تذكر أن هذه "كندا".سيؤول بك المآل إلى (أ), على الرغم من أن بين ذلك وذاك  قد تحصل على ملحمة المشاجرة الشهوانية بسبب التورط العاطفي, وقائع عصرنا, شيء من هذا القبيل.
          سيتوجب عليك المواجهة ذلك أن النهايات ستكون نفسها كيفما توجهت إليها. لا تكن مخدوعا بأية نهايات أخرى. إنها جميعا وهم, إما متوهمة عمدا بنوايا خبيثة للخداع, أو أنها مجرد مدفوعة بالتفاؤل المفرط إن لم تكن عاطفة مؤكدة.
          النهايات الأصيلة الوحيدة هي المقدمة هنا :
          يموت جون وماري. يموت جون وماري. يموت جون وماري.
          ثمة الكثير حول النهايات. البدايات دائما ما تكون أكثر متعة. الخبراء الحقيقيون معروف أنهم يفضلون الامتداد بين الاثنين لأنه الأصعب أن تفعل أي شيء بها.
          هذا كل ما يمكن أن يقال عن "الحبكات". التي هي على كل حال مجرد حدث بعد آخر, ماذا وماذا وماذا.
          حاول الآن بلماذا وكيف.


السبت، 30 يناير 2016

عبدالواحدالأنصاري شروط الإقناع السردي

عبدالواحدالأنصاري
شروط الإقناع السردي

حاوره: عبدالله الزماي

س1/ لماذا تخليت في "ممالك تحت الأرض" عن تقنياتك السردية المبتكرة في "كيف تصنع يدا؟" و"السطر المطلق" وانحزت للحكاية هنا؟أم أنه يمكننا أن نعتبر ورود عبارة "....وكنت في حضرة شيخي" في أول الرواية, شكلا من هذه التقنيات؟
سأبدأ بالإجابة على الشطر الثاني من السؤال: وهو أن النقاط الثلاث في بداية الرواية (... وكنت في حضرة شيخي)، والنقاط الثلاث في نهايتها (لا إله إلا الله، محمد رسول الله...)، هذه إنما أتيت بها للإشارة إلى أن بداية النص المكتوب ليست هي بداية الأحداث، ولا الحكاية، وإن كانت هي بداية الرواية، وأن النهاية كذلك، فليست نهاية رواية ممالك تحت الأرض بنهاية مغلقة للأحداث التي جرت لبطلها. وهي أيضاً محاولة لإثبات أن البداية مفتوحة كما أن النهاية مفتوحة، وربما كان هذا أيضاً لطمع خفيّ في أن أعود لكتابة جزء آخر من هذا العمل، على رغم أنني الآن لا أفكر في ذلك، لقد كبرنا على الرواية يا صديقي، وربما كان الأصح أننا هرمنا منها، وربما يأتي يوم (قرّبه الله) تشغلتني فيه هود وأخواتها.
لكن قبل أن أمضي معك في هذه الأجوبة، لا أحب أن أخادع القارئ عن نفسي أو عن رواية ممالك تحت الأرض، فعلى رغم كلامي هذا المسترسل عنها، فهي ليست إلا عملاً سردياً عن شاب يتيم أراد الترقي في مراتب التصوف، وتجري أحداثه في مصر القديمة في القرن الحادي عشر الهجري، ولا تتعدى أوراقه 128 صفحة، وصدرت عن مؤسسة الانتشار العربي اللبنانية.
أما عن الشطر الأول من سؤالك، حول التقنيات السردية والتخلي عنها (وأنا لا أفهمها هنا بالمعنى الاصطلاحي، وإنما بالمعنى العرفي الذي نقصد به في المشهد المحلي أساليب السرد وفنونه وتجلياته، بما يدخل فيه مصطلح تقنيات السرد ولا يستحوذ عليه) فدعني أقول لك أيها الفاضل: لا تصدق في العصر الذي نعيشه أن ثمة قراء كثيرين أو حقيقيين يُعنون بجانب العمق أو التقنية أو التجريب في السرد، فالمحرّك الأساسي للإقبال القرائي على النصوص يرجع إلى ثلاثة أمور لا رابع لها في اعتقادي، وهي: الجوائز، والشهرة الإعلامية، والحكاية البسيطة ذات الإثارة. فعلى سبيل المثال: هناك نقّاد وسرديّون جيدون جداً حين ينظّرون للعمق والرمزية والتجريب وما أشبه. ولكنك عندما تكتب لهم نصاً بهذه المواصفات فإنهم يتململون من نصّك ويتخلون عن الأوصاف النقدية ويلجؤون إلى أوصاف تطلق على الأطعمة والأغذية، وعلى الطرق والشوارع، وعلى الأفلام.
فيطلقون على نصك أنه "عسر الهضم"، "فيه تطويل"، "استعراضي".
ولهذا أدرك الكُتاب العرب بخاصة في سورية ولبنان وفي الجزائر والمغرب، العربي هذه اللعبة باكراً، فاجتذبوا القراء بنوع الكتابة الحكائية البسيطة ذات الإثارة، وأوهموهم بالعمق بطريقتين: "التكلف الأسلوبي"، و"المونلجة الجريئة". فأصبح وصف العمل بالعمق متفرعاً إلى عنصرين: الإثارة، والتكلف الأسلوبي والمونلجة الغريبة. واستسلم لهم القارئ واعتبر الأعمال عميقة.
ولذلك عندما أستطلع تجربتي الخاصة، في رواية: "كيف تصنع يداً" مثلاً، أجد أن القارئ العادي يتململ منها، وكذلك النقاد المتحذلقون الذين يطالبون بالتجريب والتعقيد، فأحد هؤلاء النقاد الكبار قال لي:
"مقدمة الرواية العلمية فيها استعراض بحثي".
ولولا أن الناس (وبخاصة النقاد والروائيين) أصبح أكثرهم يكذبون، وقد يكذبك الشخص إذا حكيت عنه ما كان يحلف لك به، لذكرت لك اسم هذا الناقد القائل.
وأما أحد المحاورين الصحافيين كثيري الحديث عن التجريب فقد قال لي عن رواية "كيف تصنع يداً": "لقد ضاعت الحكاية في ظل عنايتك بالمعلومة"، وهذا المحاور لا يستطيع تكذيبي، لأنه أصدر قوله هذا في كتاب.
آخرون منهم روائيون كبار قالوا: ببساطة "غير لذيذة".
وممن تعرضوا لتحكيم هذه الرواية (كيف تصنع يدا)، عندما طلبت من نادٍ أدبي أن يطبعها لي، محكمون، قضوا ثلاثة أشهر في قراءة الفصل الأول، وقالوا:
هذه مجرد عبارات قاموسية! بل نصحتني إحداهن بتوسيع اطلاعي في الرواية (عجبي!)، وقائل هذا هو قاصة روائية محكّمة عرض عليها أحد الأندية الأدبية (كان رئيسه آنذاك يستعين بي لتحكيم روايات الناس، ثم فازت بجائزة كتاب العام مجموعة قصصية كنت أنا من حرّرها وصاغها ودققها وصفّها وأحسن إليها وإلى مؤلفها الذي كان يدرس الطب في أمريكا، ولم يكن يخطر بباله أن أحداً سيجمع له هذه المجموعة المنتثرة في غلاف، فضلاً عن أن يتخيل أنها ستصدر بهذه العناية والتحرير من الشوائب والمآخذ السردية)، وهذه المرأة المحكَّمة التي عرض عليها ذلك النادي قبول رواية "كيف تصنع يداً" أو رفضها، من أجهل خلق الله بالأدب، ولكن لوجاهتها (عندهم) صارت ساردة محكّمة على رغم أنف الدهر وأهله، وهي التي أوصت النادي بأن ينصحني بـ"قراءة الرواية حتى أفهم ماهية العمل الروائي"! وأنا إنما أتوقف وأستحيي وأكف عن ذكر اسمها مراعاة لأحد أمرين: أن تكون ماتت أو نال منها الزهايمر قبل أن تقرأ هذا الحوار، لأنها بلغت من الكبر عتياً في غير علم ولا أدب، مع ادعائها لهما جميعاً وللشباب معاً، وأخشى أن يحزن ذكري اسمها ورثتها أو مرافقي شيخوختها الخاوية عند اطلاعهم على هذا الحوار.
المهم أن أقول لك إن أولئك المتفيهقين الذين طالما طالبوا بالأعمال التجريبية المعقدة العميقة، عندما أصدرت روايتي تلك، وأرهقتهم قراءتها، لم يطرح أي منهم سؤال العمق أو الفلسفة أو التجريب!
ثم فوجئت ببعضهم يضغط علي للحصول على نص "سلس" "غير متكلف" يستطيع "إكمال قراءته".
تحت هذا الضغط اضطُررت إلى التخلي عن أسلوب التجريب موقتاً في رواية "ممالك تحت الأرض"، واستخدمت أسلوب التكثيف وإدراج المعلومات والمونولوج والإثارة وتأجيج الصراع في رواية ذات طابع أفقي، وتخليت عن تقنيات الراوي العليم، وعن إدراج البناء الحكائي داخل بناء روائي أكبر، وتخليت عن طريقة الكتابة الرأسية التي تعتمد على ذهن القارئ في الربط بين الأحداث وترتيبها، وصغت الحدث من "أ" إلى "ب". وبهذا حظيت الرواية بإقبال كبير وقُراء ومعجبين كثر، على رغم أنني بذلت فيها مجهوداً تقنياً أقل، وبالطبع، لا يعني ذلك أنني لم أعتن بها من حيث دقة المعلومة وإتقان الحبك ولعبة الإقناع. والمحصّلة: أن ما يطالب به القراء هنا في مثل هذا الموضوع، قد يعوق إكمالهم قراءة النص لو امتثلتَ له، لأي سبب أو مبرر، ولو بأن يطلق عليه القارئ وصفاً لوجبة غذائية سريعة جافة وباردة.
فهذه التجربة علّمتني أنك عندما تكتب فليس عليك أن تراهن على وعي القارئ، وإنما عليك أن تستبق رد فعله. والفرق بينهما كبير؛ فأن يقرأ أحد عملك كاملاً ثم يفاجئك بقوله: "كان سهلاً وغير عميق"، خير من أن يقول لك: "آسف، لم أستطع القراءة"، فيفاجئك ويحزنك، ويشعرك بأنك مخدوع إذ راهنت على ما كان يتظاهر به أمامك من وعي وعمق، وعلى ما كان يدعوك إليه من هذا الوعي ومن هذا العمق.
باختصار: أنا أفضّل أن تكمل النص وتقرأه وتمارس عليه الأستاذية أو الأبوية، على أن تعجز عن قراءته، فتتخذ معه أسلوباً موسوماً بالتجاهل والاستبعاد.
س2/ تنقسم الرواية إلى قسمين رئيسيين: قسم فكري مليء بالحوارات الفكرية العميقة والقسم الثاني حيث بدأت الحكاية والشخصيات بالوضوح ..هل هذا عمل متعمد أم عفوي؟ هل هذا عيب فني في الرواية؟
ربما كان عيباً فنياً في بضع صفحات، ولم أفطن إليه، لا أبرئ نفسي، ولكن العمل نفسه يتبع طريقة أفقية، والبطل يحكي فيه ما يجري له، فعندما يمر بمراحل الدرس الصوفي ومصطلحاته، وهي مراحل محددة من جو الرواية، فلا بد أن يعاني القارئ شيئا من صعوبة في هذا الجانب، لا لأن السرد صعب، ولكن لطبيعة صعوبة الدرس الصوفي، ولأن البطل نفسه يعانيها، وبحسب ما أتذكر فإن الشطر الأول من الرواية لم يكن صعباً، وهي الآن بين يدي، بل كانت الصعوبة في مقاطع الصفحة 45 وما يليها، فيما لا يزيد عن سبع صفحات، عند التعرض لمفاهيم التصوف الفلسفية، وللدرس الصوفي، الذي استثقله البطل نفسه، وكان يحكيه وكأنه يحكي فصلاً من فصول التهويم العقلي، وعموماً، أنا لا أخفي كما يخفي غيري مصادره، فقد نبهت في آخر رواية ممالك تحت الأرض إلى مصادر استلهامي لهذا الدرس المعقد في بعض مقاطعها. ثم إن الرواية بعد هذه المقاطع المتعثرة مضت في سهولتها وسلاستها، ولم يستصعب منها كثيرون ما استصعبته أنت وأنا وبطلها منها أيها الفاضل.
س3/ هل شخصيات الرواية "قاسم" و"أحمد" و"الخولي" وغيرهم شخصيات تاريخية حقيقية؟ أم أنها شخصيات متخيلة في إطار تاريخي؟ وأيهما أفضل لكتابة الرواية التاريخية اختيار شخصيات حقيقية أم متخيلة ؟
كلا، ليست حقيقية، بل هي متخيلة في إطار تاريخي. أما شطر سؤالك الأخير، عن الأفضل من الكتابة عن شخصية حقيقية أم متخيلة، فهذا يحتاج فيما يخص الشخصيات في الروايات التاريخية إلى شيء من البسط، أحتسب فيه أن يفيد القارئ منه، فالذي أفضّله هو أن يكتب الروائي الشخصية التي يحتاجها جو العمل، سواء أكانت حقيقية أم متخيلة، بشرط أن يكون قادراً على إقناع القارئ بها، أما الكتابة عن الشخصيات التاريخية الحقيقية فإنما هي كتابة عن الذوات، لا عن شخصيات مطلقة فحسب، فعندما تكتب عن رمز ديني أو تاريخي مثل الغزالي أو صلاح الدين فإن مساحة الحرية أقل مما لو كنت تكتب عن تاجر مصاغات معاصر لهما من تخيلك، فعندئذ تكون مساحات الحرية أكبر، ولا يلزمك سوى أن تحتاط للجغرافية والبيئة والوقائع والعادات واللغات، وغير ذلك مما تتطلبه شروط الإقناع السردي.
أنا أعلم أن ثمة من يعتقدون أن لهم الحرية في تصوير التاريخ والأشخاص كما يشاؤون، وفي تبديل حيواتهم أو تخريبها على الأصح، وأدرك أن ثمة من يعدون من المهارة الفنية أن يشككوا في حقيقة هذه الشخصيات التاريخية أو يعبثوا بها، ولا تستغرب من أحد هؤلاء إذا كتب لك رواية يقول لك فيها إن سبب زهد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله هو أنه ارتكب جريمة قتل في أول شبابه الأموي، ثم ندم على ذلك، ولا إذا صوّر لك جلال الدين الرومي على أنه شخص طاهر نبيل (وقد ظن بعض الجهلة ذلك ظن البلهاء)، بل لا تعجب مما هو أبعد من هذا وأنكى، فما دام الروائي أو الأديب أو المثقف، غير متحلّ بالعقل المستقل والتذوّق الأبيّ فإنه يُتوقع منه أي شيء، بخاصة إذا كان يظن أن له سلفاً غربياً يتبعه في ذلك، فعندئذ هو مفتون بهذا السلف الغربي فتنة الابن غير المميز بتهاويل أمه وفلتات لسانها، ولا يستطيع أن يميز بين هذه التهاويل وبين صفاتها الأمومية النبيلة، فعلى رغم اعترافي بأن الرواية فن غربي خالص، ويكتسب عالميته من ترسمه الأصول الغربية في بناء الرواية، وهذا أمر أعترف به على مضض، فلا أحد أشد مني تمنياً لأن تكون الرواية فناً عربياً، غير أن الأمانيّ شيء والحق شيء آخر، أقول: على رغم ذلك فإن للرواية شروطاً فنية وذوقية وأدبية لا يمكن أن نقرّ بتجاوزها، حتى لو كان مرتكب هذا التجاوز من أساطين الرواية، فإن الأديب قد يكون مبدعاً على رغم الأخطاء التي ارتكبها، وليس بسبب تلك الأخطاء، وشتان ما بين الأمرين، فهل نستطيع أن نقول إن هيمنغواي كان مبدعاً لأنه كان سكيراً عربيداً جاسوساً، أو نقول إنه كان مبدعاً على رغم ذلك؟
ويحضرني الآن للتدليل على هذه الفكرة، وأعتذر عن الإطالة، مثال ساقه الرافعي في أحد ردوده على طه حسين، وهو أن قساً نصرانياً كتب في جريدة السياسة المصرية، يذكر تاريخ القديس بفنوس، الذي تناوله الروائي العالمي الفرنسي أناتول فرانس، الحائز على جائزة نوبل عام 1921، وأوضح أن القديس بفنوس الذي تناول فرانس في رواية تاييس تم العبث به، وسخر الروائي من تقواه وصلاحه، ورماه بامرأة بغي، تركته في الإثم وسقوط النفس، وصور أنه لا فرق بين القديس وهذه البغايا اللواتي كن في عصره، ولم يكتف بذلك، بل رفع مكانة البغي والبغايا في هذه الرواية وجعلهن قديسات تتفتح لهن أبواب السموات وتتلقاهن الملائكة. ثم ذكر هذا القس أن أناتول فرانس إنما تعمد بذلك إفساد التاريخ. ولم يكتف أناتول فرانس بإفساد صورة الشخصيات التاريخية، بل عمد إلى التشكيك في وجود بعض الشخصيات المتواترة، فشكك في أصل وجود جان دارك، وذكر أنها شخصية لم يخلقها الله، وهي أشهر من نار على علم.
ونحن قد لا نعجب من هذا إذا علمنا أن أناتول فرانس، على رغم بلاغته الفريدة، ومحافظته على جزالة الفرنسية في عصره، واستحقاقه لنوبل، على رغم ذلك فهو في حقيقته الذاتية كاتب عابث، يتبنى فكرة أن المعرفة لا قيمة لها، وأن التخيل يغني عنها، ويهزأ بالمستقبل، ويقول إن انتظاره لا شيء، والخوف منه غير مستحق، وغير ذلك من التهويمات العبثية غير المبالية، التي يمكن أن تصلح لأديب مرفه، ولكن لا يستطيع أناتول فرانس نفسه أو غيره أن يتبناها لو أمسى وهو مفلس أو هو مصاب بالسرطان، فضلاً عن أن تتبناها دولة في حرب عالمية أو تعاني أزمة مالية أو تعاني انتشار وباء إيبولا فيها، على سبيل المثال.
وإنما تكمن خطورة هذه الفكرة في لوازمها ومآلاتها التي منتهاها الوصول إلى تشويه التاريخ والذوات بما في ذلك تشويه الرموز المقدسة كالأنبياء والمرسلين والذات الإلهية بالإفك والبهتان، ولو أننا تبنينا هذا العبث نحن المسلمين فإلى أين سيقف بنا، وكيف يحق لنا عندئذ أن نلوم أو ننتقد كاريكاتيراً مسيئاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو حتى رواية مثل آيات شيطانية لسلمان رشدي؟
س4/ يتضح من خلال الرواية عناءك في البحث والاعتماد على مراجع وخرائط ونحو ذلك هل الروائي ملزم بكل ذلك حين يكتب رواية تاريخية ؟
هذا العناء سببه أنني أحاول الالتزام بشروط الإقناع السردي، وبأن من مسؤوليتي أن أحاول إقناع المؤرخ نفسه برواية ممالك تحت الأرض في صفحاتها الـ127، مثلما أحاول إقناع القارئ العادي بها، ونعم، إن ذلك لازم كما نص عليه أكثر من روائي عالمي محترف، إذا قصدت الرواية حكاية واقع بعينه حكاية أمينة، ولهذا فإنني أدين بفضل معلومات رواية ممالك تحت الأرض لعدد من الكتب والمقالات والقصائد، كتائية ابن الفارض، ووصايا وفصوص حكم ابن عربي، ولطائف منن وآداب عبودية وآداب صحبة وأنوار قدسية وطبقات الشعراني، وإلى كرامات النبهاني والهيتمي وفتوح غيب الجيلاني وكوكب أعلام سعد الدين إلياس، وحلاج ماسينيون وقاموس مصطلحات أيمن حمدي، وتحقيق موسى الدويش لبغية المرتاد ومصرع البقاعي والحقيقة المحمدية للدوسري، وأما الحوادث المزامنة لحياة البطل قاسم فأدين بها لكتاب الروضة المأنوسة للبكري. كما أدين في وصف مصر القديمة بعمائرها وأسواقها وخرائبها ومقابرها وجوامعها وزواياها لخريطتين فريدتين لخالد حامد أبو الروس في رسالته الماجستير: مصر القديمة في القرن السابع عشر الميلادي، وغير ذلك من المراجع. ولعل القارئ يجد لهذا المعنى تفصيلاً أكبر في كتابي المنشور على الشبكة بعنوان (حفلات الرداءة الأدبية)، وهو كما تعلم كتاب في موضوع فوز الأعمال الرديئة بالجوائز الأدبية الكبرى.
س5/ استخدمت في الرواية حوارات ذات عبارات قصيرة ولكنها تحمل مضامين عميقة..لماذا؟ ألا يخرج هذا الرواية من طبيعتها لتصير بحثا فلسفيا أو علميا خصوصا لمن لا يمتلك هذه الخلفية المعرفية عن الموضوع ؟
الشخصيات الصوفية التي قرأت عنها قليلة التكلم، عميقة المعاني، تتفاهم بالرموز، وقد استقرأت كتب الصوفية وتراجمهم وحواراتهم فوجدت في حواراتهم هذه الخاصية، فاهتممت بإبرازها في ممالك تحت الأرض، وحرصت على أن يكون الحوار مفهوماً لجميع القراء، وإن خفيت عبارة أو كلمة على قلة منهم، فلا شك أن السياق سيمكنه من التقاطها، فالرواية في النهاية جهد قراءة كما أنها جهد كتابة.
س6/ لا يتعرف القارئ على زمن الرواية بشكل مباشر من خلال الرواية ولا حتى على اسم بطل الرواية "قاسم" إلا بعد مائة صفحة من الرواية ..لماذا؟
 يمكن للقارئ أن يتعرف على زمن الرواية وبطلها قبل منتصف الرواية، بل في الصفحات العشرين الأولى منها، ولكن التصريح باسمه وبزمنها جاء متأخراً، لأن الرواية على لسان البطل، ولسان البطل عفوي، يحكي باسترسال، ولا يقدم عن نفسه سيرة ذاتية قبيل الدخول في العمل، ولا هو كاتب معاصر يعتمد شيئاً من هذا القبيل في بدايته، فهذا يكسر عفوية السرد، وعلى كل حال، فإن هذه العفوية أسلوب متبع في المذكرات، فمثلاً، لو أنك فتحت كتاب أسامة بن منقذ المعروف (الاعتبار) لوجدت أن التصريح بزمن واسم مؤلفه يظهر بعد وقت غير يسير من ابتدائك في القراءة، أظن أن الأمر عادي، بل هو الواقعي.
س7/ جعلت اليهودي مثلا في الرواية يتفوق على الصوفي في الحوار ..هل كنت محايدا أم مؤدلجا ؟ وهل ينبغي للروائي أن يكون محايدا أو مؤدلجا أو سواهما مثلا ؟
لا شك أن اليهود أهل علم وحوار وكتاب، ولهم تاريخ طويل في المعرفة، ثم إنهم لا شك أقوى وأشد تماسكاً وأقل تناقضاً في أبواب العقائد والأسماء والصفات من غلاة الصوفية، على رغم ما عند أحبارهم من التكذيب والتحريف والتجسيم، وهذا الأمر نص عليه أكثر من واحد من علماء الاعتقاد، فالصوفي الغالي (وهو ما أقصده عندما أتحدث هنا أو في الرواية) يؤمن بأن الله مبثوث في الكون، وفي البشر، وبأنه قد يحل في الأشخاص حلولاً خاصاً، ولا يؤمن بأنه في السماء، واليهودي في رواية ممالك تحت الأرض، بما أنه مطلع على كتبه وعلى كتب المسلمين، ويعرف هذه العقيدة جيداً عند ألدائه النصارى، وكما في أحداث تاريخية مشابهة، فهو يذكر الصوفي في الرواية بالحوار الذي دار بين فرعون وموسى وأورده الله في القرآن، من أن فرعون كان ينكر أن الله في السماء، ويأمر وزيره هامان بأن يبني له صرحاً لعله يطلع إلى إله موسى، ثم يقول هذا اليهودي للصوفي: أنت بدعوتك إياي إلى عقيدتك تدعوني إلى عقيدة فرعون، وأنا لا أتبع فرعون وأترك موسى، لأن  الله قد أغرق فرعون لموسى. وكما ترى، فهذا الحوار جزء لا يتجزأ من الصراع العقدي المسجل تاريخياً، والمنتشر في تلك الأزمنة بين أهل الكلام وأهل الحديث وأهل الفلسفة، وقد نقل ابن تيمية نحواً منه، وأنا قد أشرت إلى مصادر رواية ممالك تحت الأرض في نهايتها كما تعلم. وأحب هنا أن أضيف: أنه لا يلزمك لكي تحكي عن اليهود موقفاً إيجابياً أن تتملقهم ولا أن تحاول أن تبرئ نفسك من تهمة "اللاسامية"، فالعرب ساميون لأنهم من أبناء إسماعيل بن إبراهيم وهم مبرؤون من "اللاسامية" مثلما هم بريئون من "اللاإبراهيمية"، بطبيعة الخلق والفطرة، قبل أن يكون ذلك بطبيعة الديانة، وتشهد بذلك أقدم الوثائق الأدبية في تاريخ الأدب العربي، من دواوين شعر العرب ومؤلفاتهم، كما في طبقات فحول الشعراء لابن سلاّم الجمحي. وأما تملق اليهود في الروايات العربية ومحاولة إظهارهم على ضحايا للعرب، وهم في الحقيقة ضحايا للألمان وللأرثوذوكسية والكاثوليكية، ثانياً، والعرب والمسلون ضحايا لهم ثالثاً في هذا العصر، فهذه البصبصة إنما هي من تملق بعض روائيينا العرب في اليمن والعراق والشام والمغرب للصهيونية العالمية واستجدائهم لجوائزها أو الجوائز التي تقلدها، حتى إن روائياً عالمياً من غير العرب، مثل أمبرتو إيكو الإيطالي، الذي هو في غنى عن هذا، لو كان للغنى أن يكون في غير القناعة، وقع في هذا التملق في إحدى رواياته، إلا أن اليهود لم يقبلوه منه (بحسب ما فهمته مما بلغني من ردود أفعالهم)، ورده عليه بعضهم في وجهه، وربما تسعى لوبياتهم بعده إلى محاولة حرمانه من جائزة نوبل، التي لم يبق له شيء يحلم به سواها، أقول "ربما"، لأنه كتب تملقه لهم في رواية "مقبرة براغ" بطريقة فنية تحتمل أكثر من وجه، وجهاً للانتصار لهم، ووجهاً لذمهم، وعلى رغم أنه حاول نفي تلك الاحتمالية السيئة بأعلى ما في حنجرته من طاقة، فإنهم لم يرضوا بذلك (أكرر بحسب ما فهمت)، لأنهم إنما يعتمدون على النص الأصلي، وليس على تأويلات كاتبه وصراخه، وقد غفل هذا الإيطالي العظيم عن أن اليهود يقبلون بتعدد الدلالات وبالنصوص المفتوحة على التأويل في كل شيء، إلا فيما يتعلق بهم، فهاهنا إما النص الواحد المغلق والمنتهي بالركوع لهم، وإما الطرد من رحمتهم.
س8 / هناك عوالم غريبة جدا في الرواية مثل مضاجعة القرود والسير تحت الأرض ونحو ذلك..هل مثل هذه السلوكيات موجودة في تلك الحقبة التي تتحدث عنها الرواية؟
نعم، هذا موجود في كتب الصوفية وحكاياتهم وكراماتهم، وإسقاطاتهم للتكليف عن أنفسهم، تبعاً لمفاهيمهم في الترقي من مراتب العامة إلى الخاصة وخاصة الخاصة، وهلم جراً، ووفقاً لوقوعهم في غرائب الأفعال والصنائع، ومن يعرف الطرق الصوفية وكراماتها وغرائبها قد يجد أن رواية ممالك تحت الأرض مقصرة جداً في هذا الجانب، ولم تتناوله إلا بقدر ما يتحمله القارئ العادي.
س9 / تتحدث الرواية عن الصوفية ولكنها أهملت بعض الممارسات الصوفية الشائعة مثل الأناشيد والأشعار وغيرها .. لماذا؟
ثمة فرق بين الصوفية الغالية وبين صوفية الدراويش التي تحتشد فيها مظاهر الموالد والأغاني ونحوها، وقد ركزت في رواية ممالك تحت الأرض على الجانب الباطني للتصوف الغالي، وجانب الكرامات والترقي في درجات هذا التصوف، وغيبت جانب السماع والموالد وغيرها، نظراً إلى غيابها التام في مراجع هذه المواضيع، فلا تجدها حاضرة في الترقي الصوفي، ولا في كتب الاعتقاد الصوفية غالباً، ولا في كتب كراماتهم، ولكنني أوافقك تماماً، التغييب التام لهذا الجانب يعد تقصيراً شديدا مني وغفلة، إذ كان ينبغي على الأقل أن أتعرض لشيء من هذه الموالد ومن جلسات السماع، وهذه سقطة على كل حال، ولكن لعل ما قدمته في إجابة السؤال يشفع لي.
س10/ تتقاطع الرواية في عوالمها مع عوالم "الواقعية السحرية" عند روائيي أمريكا اللاتينية هل هذا تأثر من الروائي بروائيي أمريكا اللاتينية .. أم أن الواقع الصوفي يتشابه فعلا مع الواقع هناك؟ هل خطر لك هذا من قبل ؟
أنا متأثر باللاتينيين روائيين من رأسي إلى أخمص قدميّ، ومتأثر بالبرتغاليين ساردين أيضاً، غير أنني في رواية ممالك تحت الأرض لم أصدر عن عالم الواقعية السحرية، فالرواية في جانب منها أقرب إلى العجائبية من الغرائبية، وليس في تاريخ الدنيا أعجب من واقع الصوفيين، بل إنني لا أتوقع أن تجد واقعاً أعجب منه طوال حياتك القرائية، تخيل أن صوفياً يعتقد أن من كراماته أنه يتحمل آلام الولادة عن النساء، فإذا سمع صراخ من تلد قفز في خرابة مجاورة لمنزلها، ثم أخذ يتلوى ويتحمل آلام الولادة عنها، لتلد هي بعد ذلك في يسر وليونة. هل يستطيع روائي لاتيني أن يأتي (مهما اتسع خياله أو طرفته) بشيء مشابه لهذا الذي يمارسه الصوفي في العالم الواقعي ممارسة عادية يقره عليها شيوخه ويرويها عنه تلاميذه من دون أي استنكار أو استغراب؟
س11/ كانت نهاية الرواية مفتوحة على كل الاحتمالات ولم تنص على أن البطل قتل "الخولي" أو لم يقتله ..لماذا؟

 لا أدري، ربما لأنني رأيت أن إيراد لفظ القتل بعد تلفظ البطل الثانوي بالشهادة فيه قتل للعمل وإجهاض له، وفضلت ترك نهاية الرواية من دون أن نتأكد هل وقعت جريمة قتل الخولي أم استطاع البطل قاسم أن يتجنبها وينتصر على نفسه ومشايخه، لكي نفتح للقارئ وللمتخيل وللإنسان وللشاب في واقعنا المعاصر المليء ببرك الدماء أن يسائل الرواية ويسائل نفسه، ماذا حدث؟ أو ماذا يمكن أن يحدث؟ هل تستطيع الفطرة أن تستنقذ عضو الجماعة أو المنظمة من الوصول إلى جريمة قتل نفس معصومة؟ حتى ولو كان صاحبها مخدوعاً آخر يدعوك ويحثك ويغريك بقتل نفسه؟! وعموماً، أتذكر أن نهاية رواية الحرب والسلم لتولستوي نفسها كانت تحكي موقفاً مشابهاً من حيث النهاية، فقد ظل المتبارزان يؤخران إطلاق النار حتى انتهت الرواية، ومن هذا المشهد التولستي استلهمت نهاية إحدى قصصي الطويلة (ساطور لأحلام خميس)، ولكنها قصة أخرى، وليست روايتنا هذه، ليست رواية ممالك تحت الأرض.